المسار الدستوري

المسار الدستوري

يناير 25, 2021 - 18:54

عبد الله الكبير.. كاتب صحفي

ثمة قواعد أساسية للدساتير في الدول الحديثة، وكلها بالغة الأهمية، تسري هذه الأهمية على حدود الفصل بين السلطات، ومبدأ تداول السلطة، والاحتكام للقضاء الدستوري عند بروز أي أزمة، على أن الأكثر أهمية في تقديري هي حقوق وواجبات المواطنة، فالجوهر هنا هو تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص بين المواطنين من دون أي تمييز.

 الدساتير ليست مقدسة، ومن ثم تخضع للتعديل والحذف والإضافة تبعا لتطور الشعوب والمجتمعات، صحيح أن هذه العملية نادرة ولكنها متاحة مادامت تحقق مطلب الأغلبية بالآليات المعروفة ووفقا للمستجدات والتحولات التي تفرض هذا التعديل، المهم هو صدور الدستور أو إجراء التعديل عليه في مناخ الحرية. 

 مخاض طويل عبرته مسودة الدستور الليبي بعد ثورة فبراير، منذ انتخاب الهيئة الدستورية حتى إنجازها للمسودة واحالتها لمجلس النواب ليتولى تنفيذ بقية الخطوات بإصدار قانون الاستفتاء عليها وتحديد موعدا له، غير أن رئيس المجلس عطل هذه الخطوة ضمن تعطيله لكل الاستحقاقات المناطة بمجلس النواب. 

 الاعتراضات على المسودة كثيرة، إذ رفضتها بعض الكيانات التي تزعم أنها ممثلة لبعض المكونات الثقافية الليبية كالامازيغ والتبو، وجاهر بالاعتراض التيار الفيدرالي في الشرق، ولم تتوقف عديد الشخصيات عن الطعن في المسودة ونعتها بالمعيبة، والإعلان عن رفضها وطرح بدائل كتشكيل لجنة دستورية تعد مسودة جديدة، أو العودة لدستور المملكة، أو الاكتفاء بالإعلان الدستوري المؤقت في هذه المرحلة.

 بكل صفاقة ينصب البعض نفسه وصيا ومتحدثا باسم الشعب معلنا على المنصات الإعلامية أن الشعب الليبي يرفض هذه المسودة! من دون أن نعرف كيف تسنى له معرفة هذا الرفض؟ هل جرى استطلاع رأي وكانت نتيجته رفض الاغلبية؟ هل جرى الاستفتاء وقالت الغالبية لا للمسودة؟ كل هذا لم يقع بالطبع، بل إن الغالبية لم تطالع المسودة أصلا فما يشغل الناس في زمن الصراع السياسي والعسكري أبعد مايكون عن الدستور. فضلا عن أن قضية الدستور هي هم نخبوي وليست من أولويات المواطن العادي.

 كما أن الدعوة لتشكيل لجنة من خبراء تعد مسودة جديدة هي دعوة مشبوهة، فمن الذي سيشكل هذه اللجنة؟ وماهي معايير عضويتها؟ ثم هل يصح مصادرة قرار الشعب الذي انتخب الهيئة بشكل مباشر في انتخابات حرة ونزيهة والاستعاضة عنها بلجنة جديدة؟

 وبعد عودة المسار الدستوري للالتئام بلقاء وفدي مجلس النواب ومجلس الدولة في مصر والتوصل لاتفاق على طرح المسودة للاستفتاء، عادت بعض الشخصيات لانتقاد هذه الخطوة، واعتبر بعضهم أن المسودة اخوانية صرف! ولا نعرف كيف يتسنى للإخوان أو لأي فصيل سياسي أن يهيمن على المسودة ويجيرها لخدمة أجندته السياسية وقد انجزتها هيئة منتخبة من كل الدوائر الانتخابية وفاز بعضويتها عديد الخبراء في الشأن الدستوري، لكن الحقيقة هي أن هذه الشخصيات مغرمة بالتأزيم، وبعضها ساند الحرب على طرابلس وانكروا وجود المرتزقة والبعد الدولي والإقليمي للصراع الذي دفع الليبيون فيه ثمنا باهضا من حاضرهم ومستقبله. 

 كل الاعتراضات على المسودة مقبولة، ومن حق كل مواطن أن يحلم بدستور مفصل على مقاس رغباته ورؤيته، ولكن في نهاية المطاف لا أحد يملك منع الشعب من الاستفتاء على المسودة، وبوسع المعترضون تحريض الناس على التصويت بلا، واقناع الناس بضرورة إجراء تعديلات على بعض المواد محل الاعتراض، فهذا متاح في مناخ الحرية، ولكن لا يسعهم التصرف أبعد من ذلك ثم قبول نتيجة الاستفتاء كيفما كانت.

 لاجدال في كون العملية الدستورية عملية تراكمية تتجذر بوضع الدستور واعتماده بعد اقراره، ثم باحترامه والالتزام بنصوصه خاصة المتعلقة بتدوال السلطة، فلا معنى ولا قيمة لدستور يتأبد فيه الحاكم بتكرار ولايات الحكم إلى مالانهاية. ورغم كل الطعون في المسودة إلا أن نصوص تداول السلطة، وتحديد مدد السلطات التنفيذية والتشريعية واضحة وصريحة، وغير قابلة للتعديل. وهذا جانب إيجابي يغفل عنه نقاد المسودة.

 بانتظار الخطوات الأخرى في المسار الدستوري، نأمل أن لا يشتط تيار الرفض بالتعدي على حق الشعب في الاستفتاء، ونأمل أن لاتتأخر هذه الخطوة حتى تتبين القواعد الأساسية واللبنات الأولى للدولة المنشودة.

 

(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)