جلباب الاستقلال

جلباب الاستقلال

فبراير 08, 2021 - 21:29

بقلم عبد الله الكبير، كاتب صحفي

من الأقوال المأثورة عن ملك ليبيا الراحل إدريس السنوسي، والمدونة في الأدبيات التاريخية قوله " المحافظة على الاستقلال أصعب من نيله"، ويذكر الدكتور محمد المفتي في كتابه المهم (زمن المملكة) أن اجتماعا للأعيان والشيوخ والنشطاء الليبيين بالقاهرة قال حمد باشا الباسل وهو مهاجر ليبي مقيم في مصر وأحد قادة ثورة سعد زغلول عام1919. قال للحضور : يا جماعة الخير.. الاستقلال راهو جلابية كبيرة.

تذكرت هذه الكلمات مع وقائع وأحداث الاستقلال منتصف القرن الماضي والنضال العظيم من أجله، وأنا أتابع تطورات حوار جنيف حول تشكيل السلطة الجديدة لتتعمق قناعتي بما ذهب إليه الملك إدريس وحمد باشا الباسل. 


الاستقلال الذي ناله الليبيون كان ثمرة عقود من الجهاد والنضال والتضحيات، تظافرت مع ظروف دولية مواتية عقب هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية. وبانتزاع قرار الاستقلال بات بإمكان الليبيين تأسيس دولتهم وإدارة شؤونهم وإقامة علاقاتهم الدولية بأنفسهم من دون تدخل خارجي، رغم وجود القواعد العسكرية التي اضطرت الحكومة الليبية للقبول بها للحصول على موارد تمول خزينة الدولة الوليدة، لكن وجودها جعل الاستقلال غير مكتمل والسيادة ناقصة.

 لذلك كان إخراج هذه القواعد بواسطة النظام العسكري الذي أطاح بالحكم الملكي، خطوة لا يمكن التقليل من شأنها أو اعتبارها نتاج اتفاق مسبق للعقيد القذافي مع بريطانيا وأمريكا، فليست كل أحداث التاريخ مؤامرة، فالحقيقة هي أن ضباط المجلس العسكري كانوا شبابا يتقد بالحماس والوطنية.

رافضون لوجود القواعد، ولم يتوقف قادة الرأي العام الوطني من مثقفين وكتاب وصحفيين عن المطالبة بتطهير البلاد منها، ويقتضي الانصاف الإشادة بهذا العمل الوطني لضباط المجلس العسكري، مهما كانت درجة الخلاف أو الرفض للحكم العسكري. ومن دون تجاهل الكوارث التي تسببوا فيها لاحقا بعد إلغاء الدستور وتفرد القذافي بالسلطة وتأسيس الحكم الاستبدادي الدكتاتوري. 

اللحظة التالية التي استعاد فيها الليبيون استقلالهم وسيطرتهم على القرار الوطني كانت بعد نجاح الثورة في إسقاط القذافي وانتخاب الشعب للمؤتمر الوطني العام. اختار الشعب أعضاء المؤتمر في انتخابات حرة ونزيهة استعاد بها السيادة على القرار الوطني، وشكل المؤتمر الحكومة بإرادة وطنية خالصة، غير أن هذه اللحظة سرعان ماتلاشت بتفجر الخلافات السياسية وصعود التطلعات الجهوية، وماحدث بعد ذلك من انقسام وصراع مسلح أطلقه حفتر ليتدخل الخارج مرة أخرى ونفقد السيادة على قرارنا الوطني.

الاستقلال يعني سيادة الدولة لقرارها وتحكمها الكامل في مصيرها وإدارة كافة شؤونها بإرادة وطنية خالصة، وإلزام كافة الدول والمنظمات والهيئات الدولية باحترام هذه السيادة، وبمجرد تدخل أي إرادة خارجية وتأثيرها بأي درجة أو صورة تفقد الدولة جزءا من سيادتها. وهذا ماحصل عند نهاية ولاية المؤتمر الوطني وتنامي دور البعثة الأممية في إدارة الصراع. صحيح أن الموقف حتم وجود وسيط دولي بين الفرقاء، وأن تدخل الأمم المتحدة عبر مبعوثها أهون من تدخل دولة بعينها أو منظمة أقليمية أخرى كالجامعة العربية أو الاتحاد الافريقي، لكنه في نهاية المطاف تدخل خارجي يقلل من السيادة على القرار الوطني.

استمر نزيف السيادة مع استمرار الصراع، وصارت البلاد مرتعا للمخابرات الدولية والسفراء الأجانب الذين تحركوا في كل أرجاء البلاد وحشروا أنوفهم في كل المؤسسات، وكان للخارج دور واضح في تشكيل السلطة في اتفاق الصخيرات ثم اتفاق جنيف. صحيح أن الأطراف الليبية ساهمت في تشكيل هذه السلطة بالتوافق، ولكن أغلب أعضاء لجنة الحوار السياسي في جنيف لم يتم انتخابهم من الشعب، وإنما اختارتهم البعثة الأممية وفق معاييرها ورؤيتها، واليوم وصلنا إلى حالة تشبه الاحتلال من القوات الأجنبية والمرتزقة. كل هذا قوض الإرادة الوطنية. فلماذا فرطنا في استقلالنا وسيادتنا بهذه السرعة بعد نجاح الثورة في إسقاط الدكتاتورية وتأسيس سلطة منتخبة؟

ثمة أكثر من عن هذا السؤال، لأن الأسباب عديدة بالضرورة ولا يمكن حصرها في جانب واحد. فإذا قلنا أن السبب هو غياب المؤسسات، سنجد أن دولا أخرى بها مؤسسات عريقة ومع ذلك تدخلت القوى الدولية في أزماتها، وإذا ارجعنا السبب إلى ضعف التجربة والوعي السياسي لدى الطبقة السياسية سينبري من يقول أن الكثير من الشخصيات التي تبوأت مواقع متقدمة في السلطة أثناء وعقب الثورة لها تجربة سياسية لا يستهان بها. الرأي الذي يرى أن توزع السكان بين ثلاث كتل سكانية تفصل بينها مفازات صحراوية، مع ماخلفه هذا الوضع من تناقضات وفروقات حضارية وثقافية واقتصادية عبر مراحل التاريخ وتعاقب أنظمة حكم كرست المركزية، منح الفرصة وفتح الباب لتدخل الخارج لنصرة أحد أطراف الصراع، فحركات التمرد عادة تفتح الباب على اتساعه للتدخل الخارجي لكي تحصل على الدعم، هذا الرأي على وجاهته لن يكون كافيا لتفسير فقدان السيادة، أو بعضها على الأقل. 

لذلك أجد الجواب الشامل في عبارة حمد باشا الباسل، (الاستقلال راهو جلابية كبيرة) فرغم بساطة العبارة إلا أنها عميقة الدلالة، ومن الممكن وضع كافة الرؤى والتفسيرات السابقة داخل الجلباب الذي يقترحه الباسل. فالاستقلال والمحافظة عليه يحتاج إلى درجة متقدمة من الوعي لدي الجميع، خاصة الطبقة السياسية. ويحتاج إلى مؤسسات دستورية راسخة. وعمل لا يتوقف لتأمين البلاد وحدودها. وحساسية مرهفة لدى القادة تجاه أي خطر يهدد السيادة. وعلاقات متوازنة تراعي مصالح وأهداف كل الدول. يبدو أن جلباب السيادة الليبية متسع باتساع مساحة ليبيا الجغرافية وضعفها وتشتتها السكاني، لذلك سيمضي وقت طويل حتى نتخلص من كل الأسباب التي أدت إلى تقويض استقلالنا، لنعزز من سيادتنا على قرارنا الوطني. ويترسخ الوعي الوطني بمعنى الاستقلال، ونسرع من الاندماج الوطني الذي يسمو على كل الانتماءات الفرعية، لتنحسر النزعات الجهوية والقبيلة والعرقية. فنسد كل فراغات جلباب الاستقلال، ونتذكر دائما أن المحافظة على الاستقلال أصعب من نيله.

 

(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كتابها)