أيها المحاصصون لا تبخسوا عاصمتكم حقها، فإن الدول عواصم..!!

أيها المحاصصون لا تبخسوا عاصمتكم حقها، فإن الدول عواصم..!!

فبراير 12, 2021 - 22:16

بقلم/ د. فرج دردور

أجمع أغلب العلماء على أن العاصمة هي رأس الدولة التي يدار منها نشاط كل المدن الواقعة في نطاق جغرافي معين بغض النظر عن الحدود السياسية المتمثلة في الحدود بين الدول، وذلك لأن نشاطات العاصمة تحسب بكمية التفاعل بين شركاء المصلحة، وليس على أساس جهوي أو اجتماعي، وهي واجهة الدولة التي تنسج منها شبكة العلاقات الدولية المختلفة.

ووفقاً لتعريف معجم المعاني فإن العَاصِمَة هي: "مدينةٌ يُدَارُ حُكم البلاد منها وتقع فيها أهمُّ مؤسَّساتِ الدَّولة". وقد وردت العاصمة في المعجم الوسيط بهذا التعريف: "( العاصمة ) المدينة وتطلق على قاعدة القطر أو الإقليم.

فالعاصمة هي مركز للتفاعل النشط وعنوان الحضارة، لما تمثله من تجمع سكاني متنوع، فيه من المقومات المعيشية والانتاجية، ما يجعل مصالح الناس متبادلة، ولهذا يجتهدون في الحصول على مكان للاستقرار بها. وهذا التنوع يولد بطبعه انتاجاً فكرياً وابداعياً، هو خلاصة ثقافة مجتمع بأكمله ولا يقتصر على سكانها الأصليين.

فقد عرفت البشرية منذ القدم العواصم كمراكز يتمحور حولها محيط جغرافي معين يشرك السكان في نشاطاتها، ومن هذه الأمثلة، مدينة اثينا عاصمة اليونان، حيث يعود تاريخها إلى أكثر من 7000 عام قبل الميلاد، والعاصمة الفلسطينية القدس، وقد ظهرت منذ أكثر من 6000 عام، والعاصمة اللبنانية بيروت والتي يرجع تاريخها إلى ما يزيد عن 250 عام قبل الميلاد.......إلخ

أما طرابلس فكانت نشأتها كحلقة وصل تربط دول العالم بأفريقيا، وازدهرت هذه المهمة في القرن السابع قبل الميلاد زمن الفينيقيين، حيث كانت محطة تجارية وسوق لتصريف المواد الأولية من إفريقيا السوداء إلى باقي دول العالم عبر البحر المتوسط، واستمر دور هذه المدينة في مجال التبادل التجاري والمعرفي بين الشمال والجنوب. ولم يكن هذا الاختيار بدافع سياسي أو اجتماعي، وإنما فرضه توسط موقع المدينة بين شرق وغرب أفريقيا. فهي نقطة تلاقي طبيعية، ومن هنا كانت اهميتها، وهذا ما يميزها عن باقي مدن ليبيا المتناثرة والتي لا تبخسهم العاصمة حقوقهم، ولكنها تخدم الجميع لأنها مركزهم. هذه الأهمية جعلت الملك ادريس يتمناها لمدينته المفضلة البيضاء، فحاول نزع صفة العاصمة من طرابلس، ولكنه فشل ولم يفلح في أن تكون مدينة البيضاء بديلاً عنها، وعاد إليها معمر القذافي بعد أن حاول أن يخص مدينة سرت بمعمار، بقى كثير منه مهجوراً. محاولة نقل العصمة الى سرت تتكرر اليوم في اتفاق محاصصة، (عقيلة/صوان)، فالاول دافعه جهوي عنصري، والثاني دافعه انتقامي من سكان طرابلس الذين يرفضون سلوكه.

بعد ثورة فبراير برز مصطلحان (سقوط العاصمة، وتحرير العاصمة)، والحقيقة هي أن العاصمة لم تسقط ولم تتحرر، بل حافظت على تاريخها الممتد قبل زمن الملك ادريس والقذافي من بعده. هذا الزمن ما هو إلا حقبة بسيطة من تاريخها، الذي لن تكون فبراير إلا مرحلة منه أيضاً، وما زالت العاصمة تقاوم محاولات تفريغها لصالح مدن لن تستطيع استيعاب خصوصيتها ولا تطفئ بريقها عروس البحر. فهي تتميز عن هذه المدن الاخرى بانعدام النظام القبلي في تكوينها، هذا النظام عندما حل في عاصمة افغانستان جعلها دولة تغرق في ظلمات الجهل رغم موقعها بين دول نووية. وضاعت اليمن بسب تغلغل النظام القبلي في عاصمتها، وصارت الحرب هي العنوان الوحيد الذي تجتمع عليه عقول القبائل المتناحرة على السلطة والمال. كما تحولت دولة قطر إلى عاصمة حضارية مزدهرة، بعد أن تركت النظام القبلي خلفها، ولم يعد له أي وجود إلا في بعض مسمياتها، دون أي دور فاعل يؤثر على مسيرة تطورها.

اليوم يلاحظ المتتبع للشأن الليبي، أن المشكلة الحقيقة للأزمة الليبية، هي ممارسة العنف السياسي بدل العمل بالحوار كأداة لحل الخلافات. هذه النظرة تم تحديدها من الخارج والتي تعد من الناحية العلمية الأكثر تجرداً وموضوعية. حيث يقول الجنرال/ (فنسنت ديسبوغت): "الانتصار في الحرب بليبيا حققناه تكتيكياً وخسرناه إستراتيجياً، فإذا كنا قد حققنا الهدف العسكري، فإن السلام الذي توخيناه وهو تتويجاً للحرب ما يزال مفقوداً". وفي نفس السياق يقول المنسق الأوروبي لشؤون مكافحة الإرهاب: "العمليات العسكرية للتحالف في ليبيا عام 2011، كانت ناجحة، ولكنها وضعت البلاد في نفق مظلم، والصراع لا يزال مستمراً". هذا الصراع ناتج من التعصب الجهوي الذي يعكس قدرة بعض المدن والمناطق على تكوين قوة خاصة بها، تحقق لها مآربها وتبتز بواسطها الدولة الضعيفة، وفق المبدأ الجاهلي وهو السيطرة على الأرض بدل الاقناع بالفكر، والجميع يفلت من العقاب رغم جسامة جريمة التمرد.

لقد ابتليت البلاد بسياسيين فيهم كثير من الجهويين الذين وصل بعضهم إلى السلطة، بفضل أصوات أقاربهم بعد أن عزف الناخب الليبي عن المشاركة في انتخابات البرلمان مثلا، هؤلاء لا يعون أهمية وجود سلطة مركزية لم تتعود البلاد على سواها ومقرها رأس الدولة عاصمتها، وأن تفتيت المركزية ما زال وقته مبكراً في دولة بكر من حيث الممارسة السياسية، ويعوزها العلم وتفتقر لثقافة الاختلاف التي تنتج الابداع التنافسي. وفي ظل سلوك الولاء وسياسة الاقصاء الذي يسيطر على عقول المتصدرين للمشهد السياسي، لا يمكن أن تتحقق أي مقومات طبيعية للحياة دون نظام مركزي ينظم العلاقة بين الناس. هذه العلاقة صارت متوترة جداً بعد أن تمرد بعض القبليين الأشد جهلاً على سلطة العاصمة، حتى صارت كل مدينة تتصرف بهواها، وتمنع الخدمات والايرادات عن الدولة لمجرد قدرة جماعة مارقة على قفل انبوب نفط أو غاز أو ماء أو السيطرة على مرفق استراتيجي!!

ولعل الخطأ الأول الذي أظهر لنا هذا العبث والاستهتار بمقدرات البلاد، بدأ عندما رحل البرلمان عن العاصمة، مقره الطبيعي، تاركا فراغا سياسيا، ليقع بين أيدي الجهويين، ولا نستطيع نكران أن مبرر الرحيل كان منطقياً نتيجة انقلاب حزب العدالة والبناء على السلطة، بعد أن شارك في انتخابات البرلمان، وأكتشف أن الشعب الليبي لم يصوت له لعيب في منهجه. إلا أن هذا المبرر في مقياس الدول يتطلب الشجاعة والمواجهة السياسية من داخل مركز القرار في العاصمة للحفاظ على هيبية الدولة، ولم يكن حال البرلمان أخطر من حال المؤتمر الوطني الذي صمد رغم عيوبه أمام أكثر 200 حالة اقتحام لمقره، وقد تم تعليق كرسي رئيس المؤتمر الوطني على عمود كهربائي، الأمر الذي لم يتكرر بعد تشبث رئيس البرلمان بالسلطة بسبب احتماء هذا الأخير بقبيلته وابناء عمومته. هذه النعرة القبلية التي أنهكت قدرة مؤسسات الدولة على العمل، بسبب المصابين بمرضها وهم الذين يسعون لفرض مناصب دائمة وثابتة على مقاس أشخاص بعينهم، رغم أنهم غير منتجين وليس لهم أي ماضي ابداعي أو تاريخ نضالي يركن إليه. هذا السلوك لا يمكن أن يحصل في العاصمة وهو أحد الفروق المهمة.

فقد استطاع بعض الانفصاليين في برقة الحمراء، تكوين حكومة موازية بدعم قبلي، فأقحموا المورد الوحيد للبلاد وهو النفط، في دائرة الصراع السياسي، حيث قفلوا الانابيب التي وقعت في نطاق سيطرتهم ومنعوا تصديره مما أفقد البلاد ما يقارب 160 مليار من دخلها، وفق ما أفاد به مصرف ليبيا المركزي، وتضامنت معهم مليشيا من منطقة الجبل الغربي، فألحقت بالبلاد خسارة 27 مليار أيضاً، وترتب على فرض تعيين 28000 كحرس للمنشآت النفطية في المؤسسة الوطنية للنفط، هيمنة هذا الجهاز على مورد البلاد الوحيد، حيث حَوّلوا هذا الصناعة التي يجهلون ابسط مقوماتها المهنية، إلى مراكز ابتزاز للحصول على المال وسرقة المشتقات النفطية المدعومة وتهريبها، فأفلسوا البلاد وجوعوا العباد. هذه الاضرار ألحقتها مليشيات بعيدة عن طرابلس، وبعضها تدعمها وتدافع عنها القبلية، التي كلما حاولت الدولة السيطرة على مواردها، تثار نعرتها.

وهذا أكبر دليل على أن المليشيات القبلية أكثر خراباً من المليشيات الموجودة في طرابلس التي حدث منها - هي الأخرى - كثيرا من الخروقات الأمنية الناتجة من طبيعة تكوين هذه المليشيات التي في الغالب لا يعرف عناصرها معنى حقوق الانسان، وتحتاج إلى اعادة ترتيب وتدريب حتى تكون أكثر انضباطاً، وبالتالي يمكن أن يطلق عليها بأنها أجهزة أمنية مهنية، ولائها للحكومة بشكل مطلق. وهذا لا يمكن تحقيقه بمحاربتها من خارج العاصمة، وإنما بتواجد السياسيون المضحون الشجعان بينهم والعمل على تفكيك اجسامهم واعادة تركيبها بطرق علمية ومهنية، وليس بالقضاء عليها مثلما يطالب أحد الهاربين من العاصمة وهو في رأس هرم السلطة، ويتمتع بصلاحيات ملكية مثلما ينسب لنفسه، ولكن دون تحمل أي مسؤولية يتطلبها مفهوم الحكم وجمع الصلاحيات، ومنها القدرة على التخلص من المليشيات بوسائل حضارية لا يعيها القبليون الأكثر تخلفا. ولا أعمم....

لك الله يا ليبيا...

   (المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كتّابها)