نازحوا طرابلس بين رمضان الماضي والحالي

نازحوا طرابلس بين رمضان الماضي والحالي

أبريل 27, 2021 - 16:39
القسم:

منذ نحو عامين أعلن خليفة حفتر الحرب على العاصمة طرابلس في مغامرة جديدة للاستيلاء على السلطة، دافعا بمئات الآلاف من أهالي العاصمة -لا سيما القاطنين الحزام الجنوبي- لهجر مناطقهم نتيجة المعارك والقصف المستمر.

مناطق صلاح الدين وعين زارة وطريق المطار جنوب العاصمة كانت من أكثر الأماكن تضررا في هذه الحرب كما في مواجهات سابقة منذ 2011، تقول مفيدة إحدى النازحات من منطقة صلاح الدين.

وإذ تحمد الله أنها تقضي رمضان هذا العام في بيتها مجتمعة بأسرتها تحت سقف واحد, لكنها تقر بأن شبح الحرب والنزوح لا زال يلاحقها "فلا أحد يعود بعد الحرب كما كان".

في حديثها مع ليبيا أوبزرفر تقول بأن الحرب الأخيرة دفعت بها إلى حافة الاكتئاب, محملة الأحداث والمآسي التي مرت بها نتيجة العدوان مسؤولية تدهور صحتها وإصابتها بمرض القلب مؤخرا.

"نزحنا يوم 12 ديسمبر 2019, عرض علينا الأهل والأحباب الاستضافة, ولكن لم يبد أن الحرب ستضع أوزارها قريبا فأردت أن يكون لي مكان مستقل مع عائلتي".

كأي سيدة ليبية كان دأبي أن استعد باكرا لرمضان.. أجهز بهاراتي أعد قائمة النواقص وكافة احتياجاتي لهذا الشهر الكريم، غير أن رمضان ذاك العام كان استثنائيا .. كنا اتخذنا "بدروناً" مأوى لنا بعد أن هجرنا فيلتنا بصلاح الدين، كانت الأجواء مختلفة 180 درجة، وقضينا فترة النزوح في قبو تحت الأرض ثلاثة أمتار, ولك أن تتخيل ذلك في ظل انقطاع الكهرباء، ناهيك عن الحالة النفسية السيئة بسبب الحرب.. كانت سنة استثنائية بكل المقاييس لا أريد حتى احتسابها من عمري.

بمرارة تستذكر لحظة خروجها من بيتها, "مستحيل نطلع من حوشي" تجادل مفيدة أحد المقالتين المدافعين عن العاصمة وهو يحاول إقناعها بخطورة الموقف، قبل أن تسقط قذيفة في بيت الجيران مؤذنة ببدء هجوم على المنطقة، تحول خلالها الحي في بضع دقائق إلى ساحة حرب.. "وأنا أحدثك الآن أشعر بالخوق والقشعريرة".

"المسؤولية يتحملها من جاء من آلاف الكيلومترات ليعتدي علينا واستهدف بالقذائف السكان المدنيين.. قضينا رمضان الماضي مشدودين إلى القنوات والمنصات الإخبارية علنا نحظى بأي أمل لعودة قريبة لبيوتنا".

أما خديجة فقد عاشت معاناة مزدوجة وهي تتنقل بابنتها من ذوي الاحتياجات الخاصة, فإلى جانب الظروف الإنسانية الصعبة ومآسي النزوح, احتلت إعاقة ابنتها جزءا كبيرا من همومها، فالتفكير في توفير البيئة والعناية المناسبة لابنتها مثَّل حملا إضافيا على العائلة.

"لم ينقطع صوت الاشتباكات تلك الليلة ولم ننم، ابنتي تعاني من تخلف عقلي وكانت تخاف الأصوات المرتفعة فأهرع إلى تهدئتها بالقول أنها ألعاب نارية حينا أو أعمال بناء أحيانا أخرى.

خرجنا يوم 16 ديسمبر 2019 تحت القصف، كنت أرى الشظية ترتطم بالأرض وترتد إلى أعلى بينما أصوات القذائف والرصاص لم تنقطع كأنها أصوات فرقعة "الفشار".

"من الصعب العناية بشخص معاق خارج منزلك ولو كان في بيت أهلك، فرغم بقائي مع والدي فترة النزوح إلا أن البيت كان يؤوي ثلاث عائلات أخرى، منها أسرة أختي التي نزحت من منطقة سيدي حسين.

"الاعتناء بابنتي ذات الإعاقة العقلية مثل تحديا وسط هذا الجمْع، فقد كانت تنتابها نوبات غضب ولا أستطيع أن أُحمِّل غيري هذا العبء, بل اضطر أحيانا لأن أغلق عليها الباب كي لا تؤذي أحدا، ونتناوب على البقاء معها داخل الغرفة المغلقة أنا وأختها التي كانت تعاني من مرض السكري واعتقد أنه كان لذلك أثر على نفيستها وتدهور حالتها الصحية ووفاتها فيما بعد".

تتذكر خديجة يوم التحرير وكيف امتزجت مشاعرهم بالفرحة والحزن بعد أن تلقوا خبر مقتل جارهم الشاب زكرياء الجمل الذي هرع إلى بيتهم فور سماعه خبر دحر الميليشيات فانفجر عليه لغم في منزلهم.

رجعت إلى بيتي في شهر أكتوبر من العام 2020، عند دخولنا البوابة الرئيسية وجدنا نسيجا من الأسلاك الرفيعة كخيوط العنكبوت, كان أحدها مربوطا في شجرة بحديقة المنزل وموصل بباب البيت، أدركنا أن المكان غير آمن، أسلاك الألغام كانت مزروعة في كل ركن من أركان البيـت.

 

رقية هي الأخرى نازحة وأم لأربعة أطفال, كانت تقطن مزرعة بعين زارة تضم بيتها وسبعة منازل أخرى لأخوة زوجها ووالديه، هجروها جميعا بعد تسلل الميليشيات المعتدية إلى المنطقة.

والدة زوج رقية نذرت أنها ستنحر جملا وتتصدق به عندما يلتم شمل أولادها مرة أخرى، بعد أن فرقتهم ظروف الحرب والنزوح وقضوا رمضان ذلك العام متفرقين، إلا أن الوقت لم يسعفها وتوفاها الله. وتضيف رقية في حديثها للأوبزرفر "بعد عودتنا هذا العام إلى المزرعة, أول عمل قام به أولادها هو الإيفاء بنذرها وتصدقهم بجمل على روحها الطاهرة".

تفرقت عائلة رقية واضطروا لبيع قطعة أرض لاستيفاء ثمن الإيجار الذي كلفهم قرابة خمسين ألف دينار طيلة فترة النزوح.

للتخفيف من معاناتها النفسية اتجهت رقية للعمل الخيري وانخرطت في حملات مساعدة النازحين, تقول إن ما رأته من أوضاع مأساوية لعائلات أخرى هون عليها مصابها.

جميع من تحدثنا معهم من النازحين أكدوا أنه لم تتواصل معهم أي جهة حكومية أو منظمة دولية طوال فترة النزوح أو بعد رجوعهم, ولم يتلقوا أي مساعدات من جهات رسمية, بل كل ما وجدوه هو تعاضد الأهل والأصدقاء.

وتختم مفيدة حديثها "لا أريد أي مساعدة أو تعويض كل أمنياتي أن أرى ليبيا بين أيادٍ آمنة وأن يتولاها أناس وطنيون لديهم غيرية وحماس لخدمة بلادهم وشعبهم".

وفي مارس الماضي أطلقت وزارة الدولة لشؤون النازحين والمنظمة الدولية للهجرة تقريرا مشتركا استعرضا فيه بيانات سنوات النزوح داخل ليبيا طيلة فترة العدوان على العاصمة طرابلس، كما تضمن التقرير أعداد المهجرين والنازحين ،والقوائم الأساسية لتمويل عملية آلية رجوع المهجّرين إلى منازلهم. وبحسب الوزارة فقد تم تسجيل نحو 60 ألف عائلة مهجرة من جنوب طرابلس نتيجة العدوان, إلا أنه وحتى نهاية عام 2020 لم يعد منهم سوا 25% بسبب الدمار الكبير الذي طال الممتلكات الخاصة والعامة وامتد أيضا للبنية التحتية من شبكات الكهرباء ومياه الصرف الصحي.

وفي تصريحات سابقة للأوبزرفر أوضح مسؤول المشروع الوطني لتتبع النزوح الخاص بالمنظمة الدولية للهجرة صلاح الدين القبطي بأن تقرير شؤون النازحين من شأنه أن يساعد صناع القرار في البلاد في اتخاذ التدابير المناسبة بناء على معلومات رسمية موثقة, مشددا أن مشكلة النازحين تحتاج إلى تكاثف جهود ومسؤولية تضامنية بين الحكومة والمؤسسات الوطنية.