صدّارات العروض العسكرية

صدّارات العروض العسكرية

يونيو 02, 2021 - 22:34

عبد الله الكبير.. كاتب صحفي

" الاستعراضات العسكرية هي نوع من أنواع الرقص يشبه الباليه. إنها تعبير عن امتلاك القوة، بكلمات أخرى، هي شئ يقول أنا قبيح ولا احد يجرؤ أن يضحك علي بسبب ذلك".  جورج أورويل                                                                                                                                                                                                                                                                                    

 عرفت مسيرة الحضارة الإنسانية الاستعراضات العسكرية منذ الحضارات القديمة في حوض البحر المتوسط، في البدايات الأولى لم يكن الغرض من إقامتها استعراض العضلات العسكرية للدولة أو الإمبراطورية، وإنما انتظمت بشكل عفوي عند توديع الجيوش المتجهة للحرب أو استقبالها على أبواب المدن عند عودتها ظافرة. وشملت الحصص التدريبية للجنود في الإمبراطورية الرومانية استعراض عسكري يومي لنحو خمس ساعات تقطع فيها الوحدات العسكرية بكامل سلاحها وتجهيزاتها مسافة 30 كيلومتر، في أرتال منتظمة. وعبر القرون تطورت الاستعراضات وصارت لها أيامها ومراسمها الخاصة بها، لما أدرك قادة الجيوش والدول والامبراطوريات فوائدها في غرس قيم العمل الجماعي والانضباط والالتزام، وأيضا في توجيه الرسائل للاعداء في الداخل والخارج.

 تذكر كتب التاريخ حرص الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور على إقامة المواكب العسكرية والإشراف بنفسه على الإعداد لها. وكان يرتدي ملابس الحرب ويتابعها من فوق منصة خاصة به، وسار على نهجه الخلفاء من بعده، غير أن الرشيد والمأمون والمعتصم كانوا يتابعون استعراض جيوشهم وهم على صهوات الجياد، وكانت مدينة سامراء بمثابة قاعدة عسكرية عمد الخليفة المعتصم بالله على تشييد قصره فيها ليتضمن منصة تشرف على ساحة للمواكب العسكرية. وكان من تقاليد الإمبراطورية العثمانية إبراز مظاهر القوة باستعراض الفرق العسكرية عند استقبال السفراء، وعند خروج السلطان لزيارة الولايات. ويعد استعراض 14 يوليو بفرنسا من أقدم الاستعراضات المستمرة حتى العصر الحالي، ويرمز إلى وحدة فرنسا بعد حالة الانقسام التي عانتها عقب الحرب الألمانية عام 1880. واستمرت عادة الاستعراضات وترسخت وتطورت واقترنت في أغلب الدول الحديثة بالأعياد الوطنية.

  إظهار معالم القوة للعدو أو الخصم هو الهدف الرئيس من العرض العسكري، إذ يدرك القادة أن إبراز الحشود العسكرية المنظمة الضخمة، مع العتاد العسكري المتطور، كفيل بردع العدو الخارجي. ففي إطار الردع المتبادل بين أمريكا والاتحاد السوفيتي زمن الحرب الباردة حملت استعراضاتهما العسكرية رسالة قصيرة متبادلة مفادها. أنا قادر على تدميرك ومحوك من الوجود. 

  تجنب الحرب إذا كان ثمة سبيل لذلك هو أيضا من أهداف العرض العسكري. فحين تقدم جيش المسلمين لفتح مكة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يفضل فتحها سلماً، مع علمه المسبق بوجود جناح متطرف داخل مكة يقوده عكرمة وصفوان بن أمية، يستعد للمواجهة المسلحة ويحرض عليها، لذلك قام العباس عم النبي بحصر أبي سفيان في مضيق الوادي لاستعراض جيش الفتح، ولما رأى ضخامة الجيش علق قائلا : ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، لقد صار ملك ابن أخيك عظيماً يا أبا الفضل. وعاد إلى مكة مذهولاً ليقول لساداتها المترددين بين الاستسلام والمواجهة: لقد جاءكم محمد بما لاقبل لكم به، وهذا ما أراده النبي عليه الصلاة والسلام، استعراض الجيش أمام سيد مكة ليدرك أن خيار الحرب لن يكون في مصلحة قريش، فينحاز إلى الجناح الذي لا يميل للقتال، مع منحه امتياز الوجاهة أمام قومه "ومن دخل دار ابوسفيان فهو آمن". 

 إزاء التهديدات التي تتعرض لها الدول مع كراهيتها للحرب يكون الاستعراض العسكري وكذلك المناورات جزء من استراتيجية الردع الأقل تكلفة من الحرب، كما أن الدول الصناعية تعتبرها فرصة لعرض وترويج أحدث منتجاتها العسكرية أو التحديث الذي جرى لأسلحة سابقة. فيؤدي الاستعراض نفس الوظيفة التسويقية التي تؤديها المعارض الموسمية في مناحي الحياة الأخرى. راجت الاستعراضات العسكرية خلال مرحلة حكم العسكر في المنطقة العربية، وتراجعت معدلات التنمية، وتفشى الفقر بسبب تضخم الإنفاق العسكري على حساب تنمية القطاعات الإنتاجية والخدمية، فلم يعد ثمة أي هدف وطني للأنظمة العسكرية سوى التوسع في بناء الجيوش وتحويل البلاد إلى ثكنات عسكرية، وتنفيذ استعراضات القوة في كل المناسبات. ورغم التركيز على الجيش وتسليحه ورفع قدراته وكفاءته القتالية، لم تعرف البلاد العربية صناعات عسكرية متطورة، فجل السلاح المستعرض تم شراؤه من الدول الصناعية. تماماً كما هو حال الصدّارات في الحفلات النسائية بالعرس الطرابلسي، وهن نسوة مقتدرات من قريبات العروس أو العريس يحرصن على التزيين بكميات كبيرة من العقود والأساور والأقراط الذهبية، والجلوس صفاً في صدارة الحفل، ولا يفعلن شئ تقريباً عدا تناول الطعام واحتساء المشروبات ومروحة الهواء على وجوههن، جزء لايستهان به من ذهب الصدّارات إما مستعار أو مستأجر، ولا قيمة له في الدورة الاقتصادية، لأنه لايستخدم إلا في غرض العرض والتفاخر على النساء الأقل مقدرة، والمباهاة مع النساء المنافسات داخل الأسرة.

 في النظم العسكرية الشمولية كالتي عرفتها المنطقة العربية، للاستعراضات العسكرية هدف واحد هو تحذير الشعب المغلوب على أمره من أي محاولة لتحدي السلطة، أو الجهر بالمعارضة أو حتى المطالبة بالإصلاح. وعند خوض المواجهات الخارجية يتم تدمير هذه الجيوش في بضع ساعات. يقول الشاعر أمل دنقل في قصيدة (تعليق على ما حدث في مخيم الوحدات) 

قلت لكم مراراً 

إن الطوابير التي تمر

في استعراض عيد الفطر والجلاء

(فتهتف النساء في النوافذ انبهاراً) 

لا تصنع انتصاراً. 

ورغم الهزائم لا يتوقف القادة العسكريون عن الاستمرار في الاحتفال والاستعراضات للتحضير لهزائم جديدة. أنهم لا يستشعرون الهزيمة طالما هم صامدون في مواقعهم. فلا هزيمة إلا تلك التي تؤدي إلى سقوطهم عن سدة الحكم، ولا عدو لهم سوى الشعوب المقهورة تحت طغيانهم. 

 لماذا لا ينتصر جنرالات الهزائم العربية رغم كل هذا الإنفاق والتركيز على بناء الجيوش، وتعظيم القدرات العسكرية مع ضعف العدو الظاهري أحيانا؟ ثمة شرط أساسي للنصر مفقود لا يمكن من دونه تحقيق الانتصار، ومن ثم فحتى شبه الانتصارات التي حققوها هي هزائم في المآل الأخير. يقول الروائي المصري بهاء طاهر " يمكن أن تحكم الناس بالخوف والقمع، لكن الخائفين لا يمكن أن ينتصروا في حرب. في ساحة الحرب يجب أن يكونوا أحراراً".

 في خضم مرحلة التحول التاريخي الجارية الآن في المنطقة العربية، ينحسر حكم العسكر وتنهض الشعوب للإطاحة بهم وإرسالهم لمتاحف التاريخ، وما تبقى لهم من حضور واستعراض للقوة هو توهج النهاية، تماما كما يقع للنجوم العملاقة حين تنفجر غازاتها في احتراق هائل قبل أن تنطفئ وتتحول الي ثقوب سوداء منسية على حافة الكون، وسيدرك ما تبقى من حمقى ومغفلين سلبت عقولهم عروض المستبدين وغاب وعيهم رغم فداحة الهزيمة، وظنوا أنهم منتصرون في معاركهم، أن ما شاهدوه من استعراض في الساحة ليس سوى حفل صدّارات العرس، فليس ثمة اختلاف إلا في الفلز المعروض، الذهب على صدور صدّارات الأعراس، والفولاذ بين أيدي صدّارات العرض العسكري.

 

(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)