المنتحلون

المنتحلون

يونيو 17, 2021 - 11:31

عبد الله الكبير | كاتب صحفي

قال وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا في حديث تلفزيوني مطول أن صحفيا، لم يذكر اسمه، أطلق عليه لقب العجلاتي، ومن سياق الحديث يتضح أن الصحفي يقصد الاستخفاف والتحقير بمهنة تجارة الإطارات التي مارسها باشاغا قبل ثورة فبراير.

خلال السنوات الماضية اعتقدت أن هذا الوصف أطلقه أحد الغوغاء وراج عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لذلك تفاجأت واستغربت أن يأتي هذا الفعل من شخص يمتهن الصحافة. ولم تدم المفاجأة طويلا، فقد طالعت تعليقا على حوار باشاغا في صحيفة إلكترونية يديرها صحفي مغمور صدرته بهذا المانشيت." باشاغا: أنا عجلاتي وأفتخر". وبالرجوع للحوار لم ترد هذه العبارة على لسان باشاغا، وإنما ذكر في معرض حديثه أنه يحب عمله في تجارة الإطارات. 

محليا يطلق علي من يعمل في خدمة الإطارات بيعا وصيانة "قوميستي" أما عجلاتي فهي وافدة من اللهجة المصرية. ومن ثم فمطلق اللقب إما مصري أو متأثر باللهجة المصرية بحكم الإقامة الطويلة أو التربية، ولا يمكن أن يكون صحافيا بالمعنى الحقيقي للصحفي ودوره التنويري في مجتمعه. لذلك فالمرجح أننا إزاء شخص مدعي ينتحل صفة الصحفي.

فالصحفي بما ينبغي أن يحمل من فكر ومعرفة ونزاهة والتزام بأخلاق المهنة، لا يمكن أن ينزلق إلى محاولة النيل من الشخصيات العامة بأي وصف. ومحاولة تشويه الناس بالمهن التي مارسوها تعكس جهلا منقطع النظير، لأنه ليس ثمة مايعيب في احتراف التجارة مادامت لاتخالف القانون ولا تنتهك الأخلاق المتعارف عليها في التجارة. دور الصحفي هنا لايتعدى الكشف عن أي تجاوزات أو مخالفات قانونية كالتهرب من الضرائب أو الغش وغيرها.

ليس في العمل الشريف لنيل الرزق عيبا او مذمة، إذ زاول الأنبياء عليهم السلام مهن عديدة، وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة والتابعين في التجارة، وكانت تجارتهم في السلع المعروفة والمتداولة في عصرهم. كان الإمام أبو حنيفة النعمان تاجر قماش في الكوفة، ولم يجرؤ أي من خصومه ومخالفيه على تعييره بمهنته.

في عصرنا الحالي سنقف في وسائل الإعلام وكتب السير الذاتية علي المهن والأعمال التي عمل بها كثير من مشاهير السياسة والرياضة والتجارة والأدب في مراحل حياتهم الأولى، والوسط الاجتماعي الذي ينحدرون منه، من دون أن يعتبر أحد مزاولة مهنة ما نقيصة تدعو للاستخفاف والنعت بها، بل إن كثير من  الشخصيات السياسية تذكر هذه التفاصيل في سيرها الذاتية لأنها مدعاة للفخر أحيانا، وتأكيد على قيمة العمل الشريف القانوني مهما كان مستواه اجتماعيا واقتصاديا.

ذكر جون ميجور رئيس وزراء بريطانيا الأسبق في كتابه (قصة حياتي) أنه ترك الدراسة في سن السادسة عشر وعمل كمسؤول تذاكر في حافلات لندن. وأثناء دراستها بجامعة كارل ماركس في شرق ألمانيا، عملت انجيلا ميركل نادلة في حانة، وتقلب الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون في عدة مهن، فكان عامل نظافة، ملمع أحذية، مشغل مصعد، حارس ليلى.

وعمل الرئيسي البرازيلي لولا دي سلفا في ميكانيكا السيارات، ورئيس الإتحاد السوفياتي خروشوف كان فلاحا. لم ينحدر جل السياسيين وغيرهم من المشاهير في الماضي والحاضر من أوساط ارستقراطية، بل كانت سارت رحلة الكثير منهم في الحياة عبر دروب وعرة، كابدوا فيها الأهوال، ومارسوا كل المهن والأعمال، وبالجد والمثابرة تبوأوا أعلى المناصب والمراكز، وحصدوا أرفع الجوائز، ولم يخجلوا من ذكر ماضيهم العملي في سيرهم الذاتية وحواراتهم الصحفية، ولم يفكر أحد في تحقيرهم بسببها، وهذا يرجع لعدة أسباب مثل تعظيم قيم العمل وتحصيل الرزق ونبذ الكسل والاتكال في مناهج التربية، ونهوض وسائل الإعلام والمثقفين وقادة الرأي بالتأكيد عليها وترسيخها. 

لذلك عندما يقف الصحفي موقف المعارض لسياسات المؤسسة، بكشف خطورة هذه السياسات أو تأثيرها السلبي، ساعيا للإصلاح وتصويب المسار، فهو يمارس دوره الطبيعي في تنوير المجتمع، فإذا انحدر إلى شتم الشخصيات العامة التي تنفذ هذه السياسات ونعتها بأي أوصاف، أو حاول النيل منها بما لايعيبها أصلا، فهذا يعني أننا إزاء دجال منتحل يدعي أنه صحفي. 

لغويا، المنتحل هو من يدعي شيئا ليس له، ومنتحل الشخصية متشبه بها أو غاصب لها وهي ليست له. ظاهرة الانتحال قديمة، عرفها العرب قديما في انتحال الشعر، فالشاعر المنتحل هو من ينتحل شعر غيره وينسبه له، أو ينسب شعرا لغير قائله. قال المتنبي مادحا سيف الدولة : 
ناديت مجدك في شعري وقد صدرا 
ياغير منتحل في غير منتحل
 وهو يؤكد في هذا البيت أن مجد سيف الدولة حقيقي غير منتحل وكذلك الشعر الذي يمدح هذا المجد. واعتبر الأعشى انتحال الشعر عار لا يمكن أن يقترفه 
فكيف أنا وانتحالي القوافي 
بعد المشيب، كفى ذاك عارا

لم يعد الانتحال مقصورا على الشعر، بل صارت كل مناحي الحياة تغص بالمنتحلين. ولا غرابة أن يفرز الواقع المرتبك والمشوه الذي نعيشه اليوم هذا الكم الهائل من المنتحلين. ليس في الصحافة فحسب، وإنما في كل المجالات. أنظر حولك جيدا، تجاوز ما تراه من مظاهر براقة وألقاب فخمة وانفذ إلى الجوهر، أصغي وقلب البصر والفكر وستتعرف عليهم. أنهم في كل مكان من أعلى السلم حيث القيادات السياسية والعسكرية إلى أصغر مؤسسة في قرية قصية، منهم من استقر ويرفض أن يتزحزح، ومنهم من سقط في مجرى الصراعات الدائرة وفضل الإبتعاد، ومنهم من ينتظر متأهبا لكرة أخرى.

 

(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)