هذا هو الوباء

هذا هو الوباء

يوليو 09, 2021 - 20:54

عبدالله الكبير.. كاتب صحفي

الكاتب الصحفي عبدالله الكبير

 لا غرابة في قيام محتجين برصد طريق سيسلكها موكب رئيس الحكومة ليستوقفوه ويبلغوه مطالبهم أثناء مروره. إذ لا وسيلة أفضل لتوصيل الرسائل والمطالب للمسؤولين أكثر جدوي من مخاطبتهم والتحاور معهم بشكل مباشر، وانتزاع الوعود بالاستجابة والتنفيذ منهم إن أمكن. ولا غرابة أيضا أن يترجل المسؤولين من عرباتهم للاستماع لمطالب المحتجين. هذا مشهد مألوف في كل الدول التي تحتكم لمعايير المسؤولية، وتعتبر الرؤساء والوزراء ومن في حكمهم مسؤولون يعملون لدى الشعب، يتوجب عليهم تلبية طلبات كل فئاته وفقا لما يسمح به القانون.


 مؤخرا نقلت وسائل الإعلام هذا المشهد عند زيارة رئيس حكومة الوحدة الوطنية لطبرق. شباب في عز ظهيرة حياتهم يرصدون قدوم موكب الدبيبة، توارت كل مطالبهم الملحة والضرورية خلف مطلب واحد. لم يكن مهما بالنسبة لهم مطالبة حكومته ببذل المزيد من الاهتمام بالجرحى وأسر الضحايا منهم، أو توفير فرص العمل لهم بعيدا عن الحروب العبثية، أو حثه على التسريع بتوحيد مؤسسات الدولة. لم نعرف لدى المحتجين أي مطلب حقيقي يدفع إلى التعاطف معهم ومساندتهم. كان مطلبهم الرئيسي هو قيام رئيس الحكومة بتوجيه التحية لصورة كبيرة لحفتر، حملها المحتجون وتناوبوا على حملها لتظهر بارزة قبالة الطريق عند قدوم الموكب.


 تتجلى ظاهرة عبادة الزعيم في شرق ليبيا كآخر ما تبقى من مظاهر الوثنية في ليبيا، إذ كرس الوعي الجمعي في الغرب والجنوب نبذ الظاهرة ورفضها بكل قوة بعد ثورة فبراير، ولم ترفع في الساحات والميادين سوى صور الشهداء، أما الصورة المقدسة في بنغازي فقد داستها الأقدام الحرة في طرابلس، وحين حاول أحد السياسيين الطارئين بعث هذه المظاهر في طرابلس من خلال السلطة التي تمتع بها، لم يصادف وسطا ملائما وأمسى مادة للسخرية والضحك على نطاق واسع يتعذر معه تنفيذ حملة قمع واعتقالات، فالكل تقريبا اعتبر الأمر مجرد فاصل من الطرائف والفكاهات المسلية يساعد على تلطيف الأجواء المحبطة.


 يفسر عالم النفس الشهير إريك فروم هذه الظاهرة "باستدعاء الإنسان إيمانه القديم حتى يهرب من الحرية. ولكي يحل أزماته المعاصرة، ملقيا بهذا الإيمان على زعيم أو فكرة عنصرية. فالوثنية ليست الإيمان بالألهة المتعددة وإنما عبادة مانصنع أو مانصادف على الطرقات كالحجارة، نهبها كل احلامنا وعواطفنا وقوانا وماهيتنا، ثم نعبدها بعد أن نكون قد افلسنا تماما من أي معنى أو قيمة داخلية. وكلما أصبح الوثن قويا أصبح المتعدد فقيرا". وهذه هي الصورة السائدة اليوم في الشرق. وثن قوي بسطوته واجهزته القمعية ومتعدد فقير يقصر وعيه عن إدراك بؤسه وتحطمه. 


 وجهاء المتعدد الفقير جهروا بالشكوى من سوء الحال لرئيس الحكومة. أما سدنة الوثن وحملة المباخر في البرلمان، فقد اشترطوا لتمرير الميزانية اقتطاع جزء منها للوثن وحاشيته، لكي يستأنف اخضاع عبيده وخداعهم ببعض الفتات. على مدى سنوات، لم تتحرك ضمائر سدنة المعبد إزاء معاناة الناس، وأنين الجرحى والضحايا، وحاجة البلاد للانقاذ والترميم. وعلى دربهم سار الذين يحضرون غيابهم، المغيبون عن الدمار المحيط بهم وآثار الحرائق من حولهم، فصار مبلغ همهم هو استجابة رئيس الحكومة لمطلبهم الوحيد بالسجود لوثنهم وذكره بالخير. ولو تطلب الأمر تعطيل أنوار المطار لمنع طائرته من المغادرة. 


 ويسعفنا العالم فروم مرة أخرى بتفصيل مهم عن استمرار الناس في الخضوع للصنم الذي منحوه كل مالديهم، بوصفه لحالة العري الجمعي التي تصيب الناس مثل حمى أو وباء. إذ يعد شاذا من يذوذ عن حريته، ويصون كرامته، رافضا السجود لوثن صنعه البشر ومنحوه كل شئ. ومن ثم لا يهدأ للوثنيين بال حتى يتعرى الجميع بالسجود لوثنهم طوعا أو كرها. 
" لاتزال شعوبنا تتعرى وتهتف وتتظاهر من أجل بطل أو منقذ تلقي عليه بكل رصيدها من حرية وكرامة حتى تصبح أمامه لاشئ. فحينما تخرج أمة بأسرها من أجل رجل ما، تستعطفه ليحكمها ويستغلها ويستعبدها، تصبح الأمة كلها عارية بعد أن خلعت عن نفسها ما تملك ومنحته لصنمها"٠


 ما يطلبه عبدة الأوثان هو أن يسجد الأحرار لصنهم ويسبحوا بحمده. أن يصاب الجميع بفيروس العبودية ويعم الوباء أنحاء البلاد. أن يرضى الجميع بالذل والانحطاط الذي يتنعم فيه الهمج الهامج. وهذا محال لمن أدركوا أن لا عبودية لبشر محكوم بالفناء. فالعبودية لله وحده. ومهما امتد وباء العبودية فمصيره الانحسار في نهاية المطاف. فالهدف الأسمى لحركة التاريخ هي الحرية قبل أي قيمة أخرى.

 

(المقالات المنشورة في الموقع لا تُعبّر بالضرورة عن رأي الموقع، بل عن رأي كاتبها)