مطولة 2/2

مطولة 2/2

أغسطس 15, 2021 - 10:57

عبد الله الكبير | كاتب صحفي

 يصف المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي المرحلة الانتقالية بعبارة بليغة. " قديم يحتضر وجديد لم يولد بعد". فهي مرحلة يكتنفها الغموض وعدم اليقين، وتختلط فيها ملامح وسمات القديم مع النقيض الذي يحمله الجديد، ولأن المتناقضات يستحيل اندماجهما في توليفة واحدة، يشتد أوار الصراع بينهما حتى يقضي أحدهما على الآخر، وتتصاعد الاضطرابات والفوضى مثل ألسنة لهيب النار على جنبات هذا الصراع. 


 ليس ثمة شعب لم يكتوي بآلام المرحلة الانتقالية عقب ثورة أو حرب أهلية، غير أن شدة الألم وزمنه تتفاوت بين دولة وأخرى، من بضعة أشهر في البرتغال إلى نحو خمس عشرة سنة في رومانيا إلى عشرين سنة في كينيا، وأخيرا هذه الحالة التحول المفتوح على كل الاحتمالات في المنطقة العربية، من دون بصيص أمل في انفراج قريب في أي من دولها، وحتى الاستثناء الذي ميز تونس لم يصمد سوى عقد واحد.


 ليس هناك مسار واحد للمراحل الانتقالية، فالمسار تحدده عوامل خاصة بكل شعب. درجة تطوره السياسي والاقتصادي، وحدة الشعب حول قضاياه المختلفة، ومستوى التدخل الخارجي. ومن ثم لا توجد وصفة جاهزة لطرق التعامل مع معضلات المرحلة الانتقالية وسبل علاجها. غير أن ثمة مايشبه الاجماع على أن سرعة التوافق حول الدستور، وقدرة القوى السياسية على تجاوز خلافاتها وإنجاز التوافقات الممكنة، تعد من العوامل الحاسمة في تقليص زمن الانتقال وتخفيف وطأته. كما أن كل التجارب تؤكد أن حالة الاستقطاب إذا استفحلت بين النخب ثم امتدت للاوساط الشعبية فإن العواقب وخيمة.


 نحن افتقدنا كل هذه العوامل تقريبا، فالتوافق حول الدستور مفقود، والقوى السياسية عاجزة عن التوافق منذ الانقسام الذي ضرب المؤتمر الوطني، وتصاعد الاستقطاب والانقسام حتى فجر الحرب. كما أننا لا نملك اجماعا على أي رمز وطني، حتى علم الدولة ونشيدها لا يوجد إجماع عليه. أنصار النظام السبق لا يعترفون بعلم ونشيد المملكة، ويمتد النزاع والاختلاف إلى التاريخ الوطني، بالتشكيك والتخوين في بعض رموز الجهاد والنضال ضد الاستعمار. 


 لاشك أن عقود الدكتاتورية الطويلة تركت آثارها في كل ركن وزاوية من الوطن، وهي مسؤولة عن كل هذا الخراب والتشويه الروحي والأخلاقي. غير أن أسوأ جريمة ارتكبها النظام السابق هي تعطيل الاندماج الوطني في هوية جامعة، بتكريس حالة الفرقة والتشتت الجهوي والقبلي، وترسيخها بشكل ممنهج لتوظيفها في خدمة استمراره في السلطة، ومع انهيار سلطة النظام المركزية، وضعف المؤسسات أو عدم وجودها، دفع التجمعات السكانية المبعثرة إلى الالتفاف حول هوياتها الجهوية والقبلية والعرقية، لتحمي أفرادها وممتلكاتها، وتستعد لخوض الحرب مع الآخر المختلف قبليا أو عرقيا أو جهويا. 


 قادنا هذا المصير إلى ثالوث الغنيمة والعقيدة والقبيلة كما نظر لها وفصلها المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري. فالصراع الدائر منذ سنوات هو صراع القبائل والاقاليم، ومجموعات المصالح، والمليشيات على السلطة والنفوذ والثروة، أما الشعارات المرفوعة على اللافتات فهي للتمويه فقط، والاحزاب ليست سوى أسماء مستعارة ينتحلها الطامحون للسلطة، والهويات السياسية أغلبها مزور، فلا تيارات يسارية أو قومية أو علمانية حقيقية، لأننا لم نخض في زمن الشمولية أي تجارب سياسية تؤصل التيارات الفكرية، حتى تمد جذورها في حقول الشعب، وتنمو وتزدهر وتتجدد وتتطور مع المتغيرات. 


 خضعت أغلب الدول العربية بعد التحرر من الاستعمار لحكم العسكر. فخلال مرحلة الحرب الباردة عملت المخابرات الغربية على تدبير الانقلابات العسكرية، في خطوة استباقية منعا لسيطرة الشيوعيين على السلطة في المنطقة العربية، حيث الثروات الطبيعية والممرات المائية والموقع الاستراتيجي، وبعد فشل الانظمة العسكرية في تحقيق أي نهوض حضاري أو نجاح اقتصادي، فضلا عن قمع الحريات واهدار الكرامة، اندلعت الثورات وخرج الناس مطالبين بالتغيير. ليس ثمة مؤامرة في الثورة كما يروج أيتام الانظمة المنهارة، إنما المؤامرة تأتي لاحقا من القوى المضادة للثورة، ومن الخارج الذي سيعمل على استيعاب هذا الحراك وتوجيهه وفق مصالحه، والوصف المفضلة لديه هي قائد قوي يحقق الاستقرار ويحفظ المصالح ولا يتجاوز كثيرا في انتهاك حقوق الإنسان.


 لم يعترف العسكر، المدعومين من الغرب، بفشلهم خلال أكثر من نصف قرن في تحقيق أي إنجاز أو طفرة تخرج الشعوب من حالة التخلف، في موازاة الشعوب التي نجحت في اللحاق بالعصر وتبوأت مكانة عالية في سلم الدول المتقدمة. لم ينجح العسكر إلا في صناعة الهزائم، ومهادنة الكيان الصهيوني، وخدمة الأهداف الأمريكية، ولانية لديهم في التخلي عن السلطة او اقتسامها مع المدنيين. لذلك سوف يستمر النضال ضدهم، وهذا سيستغرق بعض الوقت، وسيكون على عدة جبهات. أهمها جبهة تنمية الوعي إلى حد خروج الشعب برمته ضد انقلاباتهم، ودعوتهم للعودة إلى ثكناتهم ومعسكراتهم، فإدارة شؤون الحكم ليست من مهامهم، لا التهليل والترحيب بهم بالرقص والغناء، واستجداء زعيم الانقلاب ليستلم السلطة.


 ثمة بعض التشابه بين تجربة المنطقة العربية وتجارب شعوب أمريكا اللاتينية، لذلك أعتقد بصحة ما أخبرنا به الكاتب والشاعر المكسيكي أوكتافيو باث: "هناك مرحلتان. النضال ضد الاستعمار ثم النضال ضد الدكتاتوريات العسكرية التي تعقب النصر وترى في السلطة مكافأة لها على صنيعها".


 سنحتاج إلى وقت طويل حتى نلحق الهزيمة بالعسكر، ونبعدهم عن شؤون الحكم، ونعالج كافة المعضلات الموروثة من الماضي، ونعيد للوعي مجده فتنتهي عبادة الأشخاص، ويعلو شأن المؤسسات والقانون، ونعيش عصرنا بكل شروطه.

 

(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)