شد الطابور

شد الطابور

ديسمبر 15, 2021 - 16:53


الكاتب الصحفي #عبدالله_الكبير

الكاتب الصحفي #عبدالله_الكبير

 ما إن لمح الناس يصطفون في طابور ملتو من فرط طوله حتى أوقف السيارة وصفها يمينا بشكل مفاجئ. بلهجة آمرة قال لي: إنزل بسرعة وشد الطابور. 

نفذت أمر أخي الأكبر دونما نقاش، رغم الأسئلة الكثيرة التي طافت بذهني. أين تبدأ مقدمة هذا الطابور؟ وماهي السلعة أو الخدمة التي يصطف الناس لنيلها؟ وهل نحن بحاجة لها أو تهمنا؟ هل ثمة احتمال قوي أن نصل للمقدمة ونظفر بنتيجة ما عقب هذا العناء؟

الموقف لا يسمح بطرح أسئلة خشية اضاعة الوقت، فيما الناس يركنون سياراتهم علي جانبي الطريق كيفما اتفق ويهرعون للوقوف في الطابور. 

ركن السيارة، ثم استطلع المقدمة وعاد ليقف بجواري. أخبرني أن المنشأة توزع بطاريات السيارات، وطمأنني أن وجود رجال الشرطة كفيل بمنع التزاحم على الشباك، ليمضي الطابور بانتظام، وتزيد فرص الجميع في الحصول على واحدة. تجنبت طرح اسئلتي. وهل نحن بحاجة للبطارية؟ بل هل كل هذا الحشد الممتد بحاجة لها؟ ألا يضر بها التخزين الطويل؟ 

لم يكن ثمة داع لطرح أي أسئلة. فبسبب ندرة السلع الاستهلاكية، أصيب الجميع بسعار الجشع، واشتدت الرغبة في الحصول علي كل ماهو متاح قبل نفاده. من المؤكد أن من عاصروا مرحلة الثمانينات، يتذكرون الشح الذي أصاب الأسواق، بسبب فشل سياسات النظام في إدارة الشأن الاقتصادي، بكل فروعه ومستوياته، مثل كافة نواحي الحياة الأخرى، رغم ما يدره تصدير النفط من عائدات. 

 سعار الرغبة في الحصول على أي سلعة يجري توزيعها عبر المنافذ التي اعتمدها النظام شمل الجميع تقريبا، وكان من أبرز تداعيات تلك المرحلة نفسيا، واجتماعيا ضغط الناس في مضمار القطيع +المتماثل في كل شئ. ليس مهما تحديد الحاجات وترتيبها حسب الأهمية، إذ لا أحد يملك ترف الحصول عليها متى شاء، ولا مجال للاختيار والمفاضلة بين الأنواع، وعليه أن يكابد الألم والندم من فاته الطابور، وحضر بعد انتهاء حفلة التوزيع أو سمع بها فيما بعد. أدت الأفكار الطوباوية التي فرضتها السلطة إلى تهميش الفرد لمصلحة الجموع، فحطمت في النفوس روح المبادرة والمنافسة والإبداع، وسد التوجه نحو فرض ثقافة القطيع كل أبواب التميز. ولعل أبلغ وصف يمكن استعارته ليعبر عن تلك المرحلة هو ما كتبه الأديب الانجليزي أوسكار وايلد: " معظم الناس هم أناس آخرون، أفكارهم آراء شخص آخر، حياتهم تقليد، وعواطفهم اقتباس". 

 تخطو الذاكرة مسرعة إلى الزمن التالي، حين قرر النظام استعادة القطاع الخاص بشكل تدريجي، كاستجابة سريعة لتحديات مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية في أوروبا. فعادت المحلات التجارية تحت لافتة الموزع الفرد. حينها وقع مايشبه الانفجار، انتشرت الدكاكين في كل الشوارع، ونفض التجار المخضرمون الغبار والصدأ عن عقاراتهم وعادوا لمزاولة مهنتهم، وتحولت غرف المنازل المطلة علي الشوارع إلى دكاكين بعد إجراء التعديلات المطلوبة عليها. 

 ومثلما اندفع جل الناس إلى الطوابير المتعددة سعيا وراء حاجاتهم زمن الاشتراكية، اقبلوا بلهفة للتفاعل مع هذا التحول الجديد، وانخرطوا في التجارة والتشاركيات وغيرها من التصنيفات. 

 التخلص من آثار سعار اقتناء أي سلع متاحة، استغرق نحو عقد ونصف، وهي تقريبا نفس المدة التي استقر فيها السوق، وتوفرت السلع الاستهلاكية المختلفه، وانتظمت الشركات والأسواق، بعد عودة القطاع الخاص بفعل حركة السوق والأسعار والمنافسة. 

 من قوانين الطبيعة أن حالة الكبت عن مزاولة فعل طبيعي تفرضه الضرورة،  لابد أن يعقبها انفجار فوضوي الطابع فور زوال أسباب الكبت. فالظمأ يدفع إلى دلق الماء في الجوف من دون تروي، وبعد جوع طويل يلتهم الكائن الحي ضعف ما يحتاجه من طعام بصرف النظر عن جودته، ومع توفر الماء والطعام تعود الأمور إلى مجراها المستقر بالتعود والتآلف والاطمئنان. 

 تمتد هذه الأعراض الطبيعية إلى حالة التحول من نظام الشمولي الأحادي إلى نظام تعددي، أو عقب أي تحول سياسي يزعزع أركان السلطات التقليدية، فيندفع الناس إلى تشكيل الأحزاب والمنظمات المدنية حتى قبل صدور قانون ينظمها. في العراق اليوم نحو 200 حزب سياسي، وفي لبنان وصل العدد بعد انتفاضة2019 إلى 166 حزب، وعند فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية والتشريعية في ليبيا تقدم الآلاف بحثا عن فرصتهم، بصرف النظر عن قدراتهم ومواهبهم في القيادة، فضعف الوعي بحجم المسؤولية، والرغبة في خوض تجربة جديدة، والطمع في المرتبات العالية والمزايا، هي أهم عوامل هذا الحراك المنفلت. 

 هذه التعددية الهائلة في عدد الأحزاب والمنظمات والمرشحين لا تعبر عن اختلافات ايديولوجية أو سياسية، ولا تعكس بالضرورة خارطة قوى المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإنما هي حالة الانفجار الفوضوي غير المحكوم بأي ضوابط، عقب تحولات سياسية لما تزل في أوج تفاعلاتها، ويحتاج استقرار أوضاع النظام التعددي إلى زمن يتراوح بين العقد والعقدين، وهو الزمن الذي استغرقه التحول في بلدان أمريكا اللاتينية وشرق اوروبا، واحيانا يتجاوز العقدين في بعض البلدان المنقسمة طائفيا أو عرقيا أو جهويا، خلال هذا الزمن الانتقالي تتقلص الأحزاب باندماج بعضها وتلاشي أخرى، وتتبلور لتصبح معبرة عن الطبقات والمصالح المختلفة لقطاعات الشعب، ويقتنع الجميع من خلال التجربة أن الممارسة السياسية، عبر المسؤليات الرئاسية والحكومية والبرلمانية، تحتاج لقدرات ومواهب خاصة ليست متاحة للجميع، وينضج الوعي الجمعي، فيتجه الناس إلى تغليب مصالحهم بالعقل والتفكير المنهجي لا بالعواطف والغرائز، وتنتشر الثقافة الديمقراطية، وتنتظم الممارسة السياسية عبر المؤسسات، ويعتاد الناس على الاختلاف، ويتنامى الوعي بمسؤوليات الحكم وتحدياته، مع الفرص التي تقدمها مجالات أخرى للترقي الاجتماعي والاقتصادي، فيتراجع الشغف بالسلطة. حينئذ سينكمش طابور الرؤساء تلقائيا، إذ لن يتقدم إلا من يملك حقا القدرات والمؤهلات اللازمة للنهوض بالمنصب ومسؤلياته.

(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)