السرايا٠٠ علامة فارقة في الدراما التاريخية الليبية

السرايا٠٠ علامة فارقة في الدراما التاريخية الليبية

أبريل 22, 2022 - 14:20

بقلم الكاتب| عبدالله الكبير

يشتد الصراع على السلطة هذه السنوات بين شخصيات وتيارات متعددة، ترى في الحكم غنيمة يحصل من يظفر بها على كل شئ، وقد بلغ الصراع ذروته بتهديد وحدة الكيان الليبي بالتفتت والتلاشي، إزاء هذا الواقع المرير نحن بحاجة إلى استعادة تاريخ ليس بالقريب، تبرز فيه الدولة الوطنية بكامل قوتها واتحادها واستقلالها، وحضورها أمام الكيانات الأخرى بكل ندية وعنفوان. من هذه الزاوية تابعت مسلسل السرايا الذي قدم لنا أول تجربة لحكم البلاد من أبنائها، وتأسيس دولة مستقلة ذات سيادة على أرضها وبحرها. 

إذ يعد حكم الأسرة القرمانلية حكما وطنيا خالصا، تحررت فيه البلاد من التبعية للخارج، فقد حكم الكيان الليبي من الامبراطوريات والدول التي تعاقبت خلال العصور. الفراعنة، قرطاجنة، روما، الاغريق، بيزنطة، الفرس، الوندال، الإسبان، فرسان مالطا. العثمانيون. ولعل كلمة وردت في المسلسل علي لسان الامير يوسف القرمانلي تؤكد هذه الحقيقة، ( ولدنا طرابلسية ونموت طرابلسية وقدام أي ري براني نحن مملكة طرابلس المحروسة). والكلمة ليست تاريخية قطعا، ولكن الأحداث تؤكدها، إذ انقطعت الأسرة القرمانلية عن جذورها، شأنها في ذلك شأن قبائل وعائلات الكوارغلية، بعد تزاوج العنصر الخارجي الوافد ضمن حملات العثمانيين مع أهالي البلاد، ولم تعرف الأجيال التالية لهذا العنصر العثماني، إلا الوطن الذي ولدت وترعرعت فيه وتكلمت بلسانه، فلم يغادر القرمانلية إلى اسطنبول بعد تمكن المغامر على برغل من طردهم، بل لجأوا إلى تونس، ومنها كانت رحلة العودة واستعادة العرش.

 حافظ المسلسل على الأحداث التاريخية الأساسية لعهد الباشا الثالث علي القرمانلي، وأهمها قتل يوسف لأخيه البك حسن. استيلاء القرصان المغامر علي برغل علي طرابلس وطرد القرمانليين. بالأضافة إلى تجديد المعاهدات مع الدول الأوربية، وقد أدى الممثلون أدوارهم بكل براعة واحترافية، تبوأ بها الممثل الليبي مستوى رفيعا لا يقل عن نضيره في البلدان العربية العريقة في إنتاج الدراما، ومع كل اللوحات الرائعة الجمال على طول الحلقات، والانسجام التام بين حجرات السرايا، ودهاليزها وغرفها السرية، وصالاتها، والملابس والمقتنيات الشخصية، فإن بعض الملاحظات لابد من ذكرها لأنها حقائق تاريخية، فضلا عن قيمتها الفنية العالية، غير أنها لم تأخذ طريقها لحلقات المسلسل. فالبك حسن لم يكن يشكو من قلة الأولاد الذكور، إذ فقد ولدين بوباء الطاعون الذي اجتاح طرابلس وقضى على مايقرب من ثلث السكان. 

 ظهرت اليهودية أستر في المسلسل كحسناء ممشوقة القوام، ووقع الباشا في غرامها، ولكنها في الحقيقة كانت امرأة عادية في منتصف العمر، انجذب الباشا لبراعتها في سرد الحكايات التي كان الباشا يغفو عليها في قيلولته، ولم يعرف عن علي باشا غرامه بالنساء فلم يتزوج غير اللا حلومة وهي أم كل أولاده. وكانت أستر سمينة جدا، إلى حد الحاجة إلى بضعة رجال لاعادتها إلى ظهر الدابة التي تحملها إذا ما سقطت عنها. وبقربها من الباشا قدمت للجالية اليهودية خدمات كبيرة، سهلت لهم أعمالهم التجارية، وعززت نفوذهم في السرايا. 

ظهر المرابط فطيس يتوكأ على عكاز ويعرج في مشيه، عقب نجاته من محاولة الاغتيال، وهذا لا يستقيم مع الإصابة التي تعرض لها، بعد طعنه في جنبه الايسر، وكان يكفي ظهوره برباط سميك على موقع الجرح، وهو شخصية تاريخية حقيقية، تحمله مس توللي مسؤولية تحريض الأمير يوسف على اخوته. ظاهرة تقديس المرابطين وتأثيرهم في مصائر الناس لم تنل حقها كاملا في المسلسل، رغم أن العقيدة في المرابطين وكراماتهم وقدراتهم الخارقة، كانت قاسما مشتركا بين كل طبقات المجتمع الليبي، وحتى مع انحسارها في العصور التالية، إلا أن آثارها ماتزال حاضرة حتى اليوم، فمن الطقوس التي حرص عليها القرمانليون عند الخروج للغزو زيارة المرابطين والتبرك بأضرحتهم. 

 أغفل المسلسل حدث تاريخي يعبر بعمق عن العلاقة السيئة بين أبناء الباشا، وخشية كل منهم من غدر أخويه، فعندما مرض الباشا وتدهورت صحته، حاول يوسف الانتحار لكي يتفادى مصيره المحتوم إذا صعد البك إلى سدة الباشوية، ولكن أحمد منعه من طعن نفسه بخنجر، ولا شك أن محاولة الانتحار أو مجرد التفكير فيه، يعكس حالة اليأس من أي إصلاح في العلاقة بين الأخوة الاعداء، ومن المفارقات الغريبة أن أبناء الباشا كانوا يتريضون ويتسابقون بالخيول رغم حالة العداء والارتياب السائدة بينهم. 

 لم تعكس مشاهد الميناء ماكان عليه من ازدهار وحركة، حتى لا يكاد يخلو من المراكب القادمة أو المتأهبة للانطلاق، وقد تميزت سفن الأسطول الحربي الطرابلسي، بالخفة وسرعة الحركة والمناورة، وفي غزواتها كانت تصل إلى موانئ الضفة الأخرى من المتوسط وصولا إلى مرسيليا، كان الميناء هو البوابة الرئيسية للإيالة مع العالم الخارجي، ولم يعرفنا المسلسل بأنواع السفن واسماؤها في ذلك العصر، والحالة نفسها تنطبق على قوافل التجارة، فقد كانت تتحرك شرقا وغربا وجنوبا في ايام ومواسم متعددة، ولكن المسلسل لم يشر لها إلا بشكل عرضي، في حوار بين البك حسن القرمانلي والسيدة توللي مؤلفة كتاب عشر سنوات في بلاط طرابلس. 

غلبت على الممثلين اللهجة التونسية، وهي مختلفة قليلا عن لهجة طرابلس، ولكنها الأقرب للسان الطرابلسي، ولم تختلف كثيرا عن لغة سكان مالطا. 

من أعجب ماميز طرابلس ومنحها هذه الشخصية المدنية دونا عن باقي الحواضر الليبية، هو التنوع الذي جمع كل الشعوب والأعراق للعيش فيها، من أقصى جبال القوقاز شرقا إلى مملكة مراكش غربا، ومن أدغال وسط أفريقيا جنوبا إلى أقصى الشمال الأوربي، فضلا عن شعوب البحر المتوسط. لقد كانت طرابلس المزدهرة مدينة كوزموبليتية شديدة التنوع من دون أي تعصب عرقي. 

قدم المسلسل بشكل وافي الظواهر الطبيعية التي كانت تتعاقب بشكل دوري علي الإيالة، وأساليب التعاطي معها. القحط والمجاعات. وباء الطاعون. الخسوف والكسوف، ماعدا ظاهرة واحدة لم تظهر، ربما لندرتها وهي هجوم الجراد. كان الجراد يهاجم الحواضر الليبية بأسرابه هائلة تحجب السماء، ليزيد من معاناتها في مواسم القحط والجفاف، ويلتهم كل مايقع عليه تاركا البلاد قاعا صفصفا، ولمواجهته والحد من ضرره حوله الليبيون إلى وجبة موسمية على موائدهم.

 لم يقدم المسلسل أي معركة حقيقية، سواء المعارك الداخلية بين جيش الإيالة وحركات التمرد أو المواجهات مع الأساطيل الغازية، مكتفيا بالمؤثرات الدالة على قصف المدينة من البحر، أو خروج الحملات العسكرية ثم مشهد عودتها المظفرة. تجسيد المعارك على الشاشة يحتاج إمكانيات ضخمة وإعداد غفيرة من الممثلين الكومبارس، وربما لم تتوفر هذه الامكانيات لمخرج العمل، ولكن المسلسل في مجمله كان رائعا، ولم يتأثر كثيرا بخلوه من مشاهد المعارك، وسيكون علامة فارقة في الدراما التاريخية الليبية، وبما أن النهاية قدمت لبداية جديدة بجلوس يوسف القرمانلي على عرش طرابلس، مع مشهد احتراق فيلادلفيا مفخرة الأسطول الأمريكي في القرن التاسع عشر، إذا سيكون المشاهد على موعد مع جزء آخر لن يقل متعة وإثارة عن الجزء الأول.

 

 

(المقالات المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)