حذاء شرودنجر

حذاء شرودنجر

أبريل 28, 2022 - 14:06

بقلم الكاتب|أسامة الرياني

كنت في الإعدادية حين سمعت للمرة الأولى تعبير (الكيل بمكيالين) إذ كنا نتابع مباريات كأس العالم 1990، وكانت مباراة حاسمة بين الأرجنتين والبرازيل، وقد فازت فيها الأرجنتين طبعا! لكن ليس هذا المهم. 

القصة بدأت في منتصف الشوط الأول حين غيّر لاعب الأرجنتين الشهير (مارادونا) حذاءه، وهذا حدث عابر غير مهم، لكن معلق المباراة راح يؤكد في حماس أن اللاعب يتحجج بالحذاء لأنه لم يلعب بشكل جيد في المباراة، وأن حركة تغيير الحذاء لن تنطلي على معلق خبير مثله. حتى هذه اللحظة لا شيء غريب باستثناء حماسة المعلق الزائدة لاتهام اللاعب.

في الشوط الثاني يقع نفس الحدث من لاعب البرازيل (إليماو) فيغير حذاءه أيضا. كنتُ مستعدا لمحاضرة ثانية من المعلق عن احتجاج اللاعبين بأحذيتهم حين تخونهم مهاراتهم، لكن ـ ويا للعجب ـ كاد المعلق يبكي تعاطفا مع اللاعب الذي لم يستطع تقديم أفضل ما لديه بسبب حذاء لعين. لم أفهم تفاعل المعلق المتناقض مع حدثين متماثلين، وقال أخي الأكبر: إن المعلق يكيل بمكيالين. لم أفهم هذا التعبير حينها، لكن الحادثة ظلت في ذهني كلما مررت بموقف يُكال فيه بمكيالين.

حسنا! هذا حذاء (مارادونا) و(إليماو) فما علاقة (شرودنجر) بالموضوع؟ 

إرفين شرودنجر الفيزيائي النمساوي الشهير، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، له نظرية شهيرة حول القطة المحبوسة في صندوق مع عداد غايغر، ومادة مشعة، ومادة سامة لم استطع حفظ اسمها اللاتيني الطويل، ومن نافلة القول أن أخبرك أنني لا أعرف ما هو عداد غايغر، لكن شرودنجر يعرف ما يفعل حتما. 

 تَخَيّلَ شرودنجر هذه المسألة برمتها ليشرح مسألة معقدة في ميكانيكا الكم، ويصل في ختام التجربة إلى نتجة عجيبة مفادها أن القطة المسكينة، توجد في حالة مركبة من الحياة والموت معا. 

إذا قطة شرودنجر حية وميتة في نفس الوقت، وحذاء اللاعب سيء وجيد في الوقت ذاته، ومن هُنا أجدني أُأَسس لنظرية عبقرية تربط بين الفكرتين، نظرية (حذاء شرودنجر) وأطالب بمنحي براءة اختراع لهذه النظرية، هذا إن كانوا يمنحون النظريات العبقرية براءات اختراع.

دع عنك الآن مارادونا وشرودنجر ونظرياتي اللوذعية وتأمل في واقعنا الليبي، سترى حذاء شرودنجر محشورا في أماكن شتى من واقعنا للأسف.

تغلق مليشيات حفتر تصدير النفط على المواطن المسكين، فينبري سياسيون، ومدونون، وقادة رأي، ورؤساء أحزاب للتنديد بما يحصل. ثم يتكرر الفعل بعد بضع سنوات، فيُدافع نفس السياسيين، والمدونين، وقادة الرأي وروساء الأحزاب عن المجرمين. يدافعون عن الفعل الذي كانوا ينتقدونه ويشجبونه، فما الذي تغير؟ معايير الخير والشر، والصواب والخطأ ثابتة، لكن الموازين السياسية متغيرة، وتتغير معها أهواء القوم، وتقييمهم للأمور.

السيد (فتحي باشاغا) الذي طالما ندد بإغلاق النفط، لأنه عبث بقوت الليبيين، يساند اليوم هذه الأفعال لأنه تحالف مع المجرمين الذين يفعلون ذلك. قد يصعب عليك فهم هذا التناقض العجيب، لكنها نظرية (حذاء شرودنجر) التي ستوضح لك كل غموض في الأمر.

أتذكر أن مذيعا سأل النائب (علي التكبالي) عن رأيه في المقابر الجماعية في ترهونة التي اقترفتها مليشيات (الكاني)، وكان رد (التكبالي) صادما، إذ قال: لا أستطيع الحكم على هذه الجرائم حتى أعرف هل فعلها "الكانيات" حين كانوا ضدنا في 2018 أم حين كانوا في صفنا في 2019. وهذا جواب يلبس حذاء شرودنجر بكل وضوح، لا تحتاج ذكاءً لتستنكر قتل الأبرياء، ودفن الناس أحياء في مقابر جماعية. لكنه حذا شرودنجر اللعين.

ليس الأمر حكرا على مجتمعنا وبلادنا، فحذاء شرودنجر يجد رواجا كبيرا في العالم أجمع.

رأيتم جميعا ردود الفعل العالمية على الغزو الروسي لأوكرانيا، وحجم التعاطف الكبير، ولعل من أبرز مظاهر هذا التعاطف ما رأيناه في الملاعب الرياضية، لا سيما الدوري الإنجليزي، ولن أحكي عن استبعاد الفيفا للمنتخب الروسي من كأس العالم، واستبعاد الأندية الروسية من البطولات الأوروبية. وأنت ترى بوضوح أن الفيفا تلبس حذاء شرودنجر العجيب، فالجمهور الرياضي يتذكر ما تعرض له المصري محمد أبوتركة لمناصرته القضية الفلسطينية، وما تعرض له الألماني مسعود أوزيل لمناصرته لقضية الإيغور، والضجة العالمية التي رافقت كل هذه الأحداث. قرأت عشرات التدوينات والمقالات التي تلوم الفيفا والمجتمع الغربي على ازدواجية معاييرهم، ينظر الناس باستغراب لهذه الازدواجية، لكنني الوحيد الذي أفهم القضية، لأنني صاحب نظرية حذاء شرودنجر.

أينما التفتت رأيت أثرا لحذاء شرودنجر. هل تتذكرون كيف كان البيت الأبيض يستقبل طالبان أيام الجهاد ضد الغزو الروسي، ويسميهم المقاتلين من أجل الحرية، ثم كيف تغيرت هذه النظرة بعد ذلك وصارت طالبان شيطانا مريدا، وخطرا على البشرية، لتعود الإدارة الأمريكية بعد سنين وتسلم أفغانستان لطالبان بعد سلسلة مباحثات، صارت فيها طالبان جسما معترفا به، وندا سياسيا، وتنظيما (كيوت) في نظر الأمريكيين، إن البيت الأبيض يلبس حذاء شرودنجر أيها السادة.

أيها القارئ الحبيب امعن النظر حولك، وتفقد مواقف أصحابك ومعارفك ومواقفك الشخصية أيضا فأنت لست استثناءً، تأمل جيدا وصدقني سترى أثر حذاء شرودنجر في كل ما يحيط بك.

ولعل أول من انتعل حذاء شرودنجر في التاريخ هو الشاعرالعباسي المتصوف أبو بكر الشبلي إذ يقول:

ويقبحُ من سواك الفعلُ عندي 

فتفعله فيحُسنُ منك ذاك

لكنني _ أيها القارئ الحبيب _ لن أدخل في جدل تاريخي للبحث عن أول حذاء شرودنجر، وسأترك ذلك لعلماء ﺍﻷﺭﻛﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ.

ختاما .. ودفعا لأي شبهة أو اتهام من القارئ العزيز، أحب أن أأكد على إنني ضد إغلاق النفط، وضد منتخب البرازيل، وضد (علي التكبالي)، وضد تعذيب القطط وقتلها حتى في التجارب الفيزيائية، وربما أكون ضد فيزياء الكم، لكنني للأسف لا أعرف كنهها تحديدا، فلا أستطيع تكوين موقف تُجاهها.

 

(المقالات المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)