الطوطم

الطوطم

مايو 04, 2022 - 22:36

بقلم الكاتب| أسامة الرياني 

حين سمعتُ القذافي - ذات يوم - يقول إننا متقدمون على سويسرا، خطر في بالي سؤال واحد؛ هل يصدق أنصار القذافي مثل هذه السخافات؟

لا تحتاج لكثير من الذكاء لتكتشف أن المسافة الحضارية بيننا وبين سويسرا تُقاس بالسنوات الضوئية، هي أشبه بالمسافة بين مسلسلاتنا ومسلسلات أمريكا مثلا، أو ملاعبنا وملاعب إسبانيا.

لو تحمستُ لمسلسل ليبي وقلت أن مسلسل كذا المُنتج في 2022 أفضل من مسلسل هاوس الذي بدأ في التسعينيات. أو قلتُ إن ملعب العجيلات أفضل من سانتياغو برنابيو. سيعتبرونني مخبولا، وسيسخرون مني في صفحات التواصل الاجتماعي، وربما استضافتني قناة ما، أو أنتجت لي برنامجا تلفزيونيا رمضانيا. كما يفعلون مع الحمقى والمعتوهين عادة.

لكنني لو قلتُ هذا الكلام وأنا صاحب منصب - أي منصب -  لرأيتَ أتباعي وحواريي، يصفقون لعبقريتي ويهللون لنظرتي الثاقبة.

كثيرا ما يتحول الزعيم إلى رمز مقدس لا يخطئ، (طوطم) كما تسميه القبائل البدائية، والطوطم - كما تعلمون - هو كيان مادي (صنم أو حيوان أو شجرة أو غير ذلك) تقدسه جماعة ما، باعتباره يحمل صفات روحية خارقة. وكل ديكتاتور مجرم يسعى جاهد لتحويل نفسه إلى (طوطم) عبر سلسلة معقدة من العمليات، تجعلنا نؤمن في النهاية أن كل أفكار الزعيم رائعة وعبقرية، وربما تقصر عقولنا عن فهم عبقريته، لكنه عبقري قطعا ونحن حمقى. بل يصل الحد لأن يهتف بعضهم للقذافي: (هذا الرجل يجب أن يُعبد) ويعرض التلفزيون الرسمي للنظام هذا المقطع مرارا وتكرارا وكأنه يحاول ترسيخ هذه الفكرة القميئة في أذهان الناس.

سترى ذلك واضحا عند كل أتباع القذافي، وصدام حسين، وجمال عبد الناصر، وملوك السعودية، والسيسي، وكيم يونغ. وغيرهم.

الأمر لا يتعلق بالأفكار والآراء فقط، لكنه كل شيء يتعلق بهذا الـ(طوطم) فثياب القذافي التي لا تليق إلا بمهرج، تبدو عند أتباعه من تصميم (جورجيو آرماني)، وأفكاره المضحكة حول بو عمامة والشيخ زبير والدجاجة التي تبيض، هي عند أتباعه فلسفة يقصر عنها (نعوم تشوميسكي)، واعتراضه عن الحِجاب، واستخفافه بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، - عندهم - عبقرية فقهية أين منها الشافعي وابن تيمية.

وما ذلك - في  نظري -  إلا لأنه استخف قومه فأطاعوه. إنه استخفافٌ بأتباعه، ينتج عنه طاعة عمياء، تبدو سخيفة سمجة لمن ينظر لها من علٍ، ولكن المنغمس فيها لا يستطيع تمييزها.

يقول سيد قطب رحمه الله في تفسير قول ربنا (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين) ومن هنا يعلل القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول: (إنهم كانوا قوماً فاسقين). ويرى سيد قطب أن الفسق هو الممهد للاستخفاف بهم، فيؤكد أن الطاغية "لا يملك أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان. فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح".

خطر في بالي كل هذا وأنا أقرأ تغريدة السيد فتحي باشاغا التي يتهم فيها صحيفة "ذا تايمز"  الإنجليزية الشهيرة، بتلفيق مقال له.

لا أعرف كيف سيتقبل أنصار السيد باشاغا هذه التغريدة، البيّن خطلها، والواضح سخفها. وأظن أن بعض أتباعه - إن لم يكن جلّهم - سيصدقون كلامه، ويناصرونه، ويسبون صحيفة ذا تايمز العميلة بنت الأبالسة. لمجرد أن سيدهم طوطم جديد.

لن يفكر أحد من المستخف بهم كيف تلفق صحيفة بهذه الشهرة، مقالا مثل هذا؟ مُجازفةً بسُمعتها، التي صنعتها عبر أكثر من قرنين من عمرها. 

لن يفكر أحد من المُستخف بهم لماذا لا يقاضيهم الـ(طوطم) وهي - كما ترون - قضية مضمونة، الصحيفة قوّلت الرجل ما لم يقل، وهو "عند أتباعه" رئيس حكومة وليس مجرد مواطن من عامة الناس. فلماذا لا يقاضيهم، ويخرب بيوتهم. طبعا لا أحد يفكر كذلك لأن الـ(طوطم) أعلم بما يفعل.

إن الاستخفاف بالعامة ليتبعوا رأي الزعيم ليست خاصية ليبية ولا عربية، ولكنني أزعم أنها ظاهرة عالمية، تنتشر متى ما وجدت أرضا خصبة لذلك.

إن صورة اليهود والسوفييت في ألمانيا النازية، وصورة الشيوعيين في أمريكا أيام الحرب الباردة، وصورة التوتسي في الإعلام الرواندي الذي سيطر عليه الهوتو، وصورة الإخوان المسلمين في إعلام السيسي وإعلام القذافي، كل هذه الصور إنما هي محاولات للاستخفاف بالناس، ينجر وراءها فئام من الفاسقين، والحمقى، ومسلوبي الفكر، منعدمي الاحترام لذواتهم، أولئك الذين يسلمون عقولهم، لساداتهم وكبرائهم ليُرْدُوهم، وليسلكوا بهم طرائق الضلال ومراتع الغفلة.

الذين يستخفون الناس كثيرون، ولكن اللوم يقع – بالدرجة الأولى – على  الناس المستخف بهم، فالمفروض أن رصيدك من المعرفة والتقوى ينجيك من تصديق كل دجال، والدجاجلة كُثُرٌ، ولكن اللوم على الذي يصدق أن الرائد محمد الحجازي المنشق عن عملية الكرامة إنما كان مسحورا كما زعم، والذي يصدق أن الإخوان المسلمين "ريحتهم وحشة"، كما زعم علي جمعة في تحريضه على قتل الناس في ميدان رابعة، والذي يصدق أن أكلك لنوع معين من الدجاج سيجعلك أقرب إلى الله كما زعم عمرو خالد يوما ما.

إن قصص الأوغاد المستخفين بالشعوب لن تنتهي منذ كاليغولا الروماني مرورا بالحاكم بأمر الله الفاطمي وصولا إلى القذافي وعيدي أمين وبوكاسا وغيرهم.

لكن اللوم – كل اللوم ـ على من ينجر خلف هؤلاء ليصدق أن ليبيا أكثر تطورا من سويسرا، أو ان ذا تايمز قد تلفق مقالات لسياسيين دون مناصب حقيقية.

ختاما .. لا مشكلة عندي – أيها القارئ الحبيب – إن صدقت قيادتك وكذّبت التايمز، أو رأيت أن عيدي أمين أذكى سياسي في التاريخ، أو أن كيم يونغ رمز السلام في العالم، أو أن حكام السعودية يفهمون أي شيء في الدنيا، لكن أن تكون ممن تعجبهم ثياب القذافي فهذا ما لا يُعقل، لا أستطيع أن أجد لك عذرا في ذلك. ذائقتك في خطر يا صديقي إن كنت من هؤلاء.

 

(المقالات المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)