العارفون.. ماذا لو سكت من لا يعرف؟

العارفون.. ماذا لو سكت من لا يعرف؟

مايو 12, 2022 - 21:21

بقلم الكاتب| أسامة الرياني 

(أرجوك ما تفتيش..!) هذا عنوان برنامجٍ عُرض على إحدى قنوات يوتيوب منذ سنوات، فكرة البرنامج – ببساطة – تعتمد على لقاءات مع العامة في الشارع، تسألهم المذيعة عن آرائهم في أمور لم تحدث، فتسألهم مثلا عن رأيهم في الديناصور الذي اصطاده أحدهم، وأهداه لحديقة الحيوان، أو عن رأيهم في الصحن الفضائي الذي نزل في منطقة كذا، وعن احتفالهم باليوم العالمي للبطريق وعن الحرب الحدودية الدائرة بين كمبوديا وموزمبيق، وغيرها من الأكاذيب. الغريب أن الجميع – على الأقل جميع من عُرضت مقاطعهم – كانوا يُجيبون بثقة عالية، فيتحدثون عن زيارة الحديقة لرؤية الديناصور، أو عن ابن عمهم الذي تصور مع المخلوقات الفضائية، وتحمس بعضهم ليحكي عن تقاليد عائلتهم في الاحتفال بعيد البطريق، فضلا عن دعواتهم للسلام وضبط النفس على الحدود بين كمبوديا وموزمبيق.

وهكذا تبدو ظاهرة (الفتي) أو (الهبد) كما يسميها المصريون، تبدو ظاهرة واسعة الانتشار، ربما أكثر مما نتصور.

إن كنت مازلت متشككا في حجم الظاهرة، فتأمل حائطك على فيسبوك، واستمتع بعبقرية علماء الشريعة، والأطباء، وخبراء الاقتصاد والرياضة، الذين قَلّ أن يجتمعوا في مكان وزمان واحد، أقصد في مكان وزمان واحدين، لستُ مرتاحا للفظة (واحدين) .. في (زمكان) واحد، نعم إنه الزمكان، هكذا تبدو الجملة أفضل، وإن لم تفهم لفظ الزمكان - يا عزيزي القارئ - فأنا مستعد لتقمص دور آينشتاين لأتحدث في الفيزياء، فالمدونون ليسوا خيرا مني.

في صفحة طبّيّة على منصة فيسبوك يتكرم بعض الأطباء – مشكورين – بتقديم استشارات مجّانية، اشرح حالتك في تدوينة، وخذ رأيا علميا، أو آراءً من عدة أطباء في التعليقات، هذا ما يجب أن يكون، ولكن الواقع أنك حين تسأل عن سرطان البنكرياس، أو مرض باركنسون مثلا، فإنك ستجد 54872 ردا من عوام الناس، الذين لم يدرسوا الطب لكنهم يجزمون بأن علاجك يكمن في الشيح المغلي، أو طحال العنز المُعتق. لا أعرف حقيقة كيف يعتقون طحال الماعز، لكنهم وجدوا طريقة حتما. يحاول الأطباء المختصون تنبيه العوام إلى عدم الإجابة في التعليقات، لكن هيهات!! فالمتحمسون لن يثنيهم مجرد طبيب درس بضع سنوات في كلية الطب، ومارس المهنة ردحا من الزمن، فطحال العنز هو الحل شاء من شاء وأبى من أبى.

كنا نتندر على جدتي التي تتهم الطبيب بالجهل لأنه وصف لها أقراصا لمشكلة في ركبتها، وكانت – رحمها الله – تستدل على جهل الطبيب بأن الحبّة ستتجه للبطن لا الركبة، وأن المراهم هي علاجات الركب عند الأطباء العارفين.

لا أحد يلوم جدتي، فهي عجوز أمية لا تفهم في الطب، لكن نفس المنطق للأسف يتكرر عند مدونين مشهورين، وقادة رأي، وساسة، وكلهم يصير (جيمي كارتر) إذا تحدث في السياسة، و(الليث بن سعد) إذا ناقش موضوعا فقهيا، ويتحول إلى (نعوم تشومسكي) إذا تحدث في علم اللغة.

أحد مشاهير السوشيال ميديا في ليبيا نشر مقطعا يشرح فيه – لنادي الاتحاد - خطة لعب لمباراتهم ضد الأهلي، وقد سمى الخطة: (مدلي وانمدلك)، الغريب أنه بعد خسارة الاتحاد ظهر في فيديو آخر ينصح الأهلي بنفس الخطّة، لمواجهة (أورلاندو) وخسر الأهلي أيضا.

أنا لا أشك في سخف هذا الرجل، ولا أظن أحدا يأخذه على محمل الجد، ولكنني أستغرب من عدد متابعيه الكبير، وأستغرب من حجم الاحتفاء به على منصات التواصل الاجتماعي.

أشعر أحيانا أن انتشار هذه المقاطع، يُجَرّئُ بعض الناس على اقتحام الشأن العام، لأنهم يثقون أنهم مهما اسْتَفَلُوا فلن يصلوا لمثل هذا الحضيض.

مُلئت صفحات السوشيال ميديا الأيام الماضية بنقاشات حول قضية أخلاقية تتعلق بالقبض على مجموعة شباب، لابد أنك سمعت بها عزيزي القارئ، ولعلك ممن شارك فيها برأيه الحصيف. لكنني قرأتُ لرجل قانون يتساءل عن صحة إجراءات القبض، وقرأت لشيخ يناقش حكم (التسور) ومسألة التشهير بالمتهمين. "لاحظ أنهم مازالوا مجرد متهمين ولم يجرمهم القضاء بعد". الغريب أنه في الحالتين رُمي الشيخ والقانوني بأفظع الأوصاف، بدءا بالتشكيك في ميولهما الجنسية، وانتهاءً باتهامهما بالإلحاد والعمالة للماسونية والصهيونية.

تمنيتُ أن أسمع رأي علماء الاجتماع، وعلماء النفس في المسألة، لكنني أكاد أجزم أن لا مكان لصوت عاقل حين تكون الموجة مرتفعة. إما أن تسير مع التيار، أو أن تُرمى بأقذع الأوصاف.

ومردّ ذلك - في نظري - لكثرة من يهرف بما لا يعرف. لو سكت من لا يعرف، لارتفعت أصوات العارفين، ولوجدنا مُتسعا لنسمع كلاما موزونا بدل موجة السباب النابعة من شعور ساذج بأهمية أن نُبدي آراءنا في كل شاردة وواردة.

تعرفون جميعا صراعات العيد الموسمية بشأن شكل زكاة الفطر، وصراعات عاشوراء بشأن بدعية طبخ الفول، وعصيدة المولد، وصراع العصيدة هذا ينشأ عنه صراع هامشي - كل عام - يتعلق بأفضلية العسل أم الرُّب. لكن هذا ليس موضوعنا.

أظن موضوعات الفقه والطب هي الأكثر جذبا للعامة، ولا أحد يتحرج من طرح رأيه فيها، فبماذا يزيد عليه طبيب أو شيخ.

جَرّب في أي مَجْمَع أن تَذْكُرَ عارضا طبيا، أو مسألة فقهية، ولابد أن تجد عشرات الإجابات على المسألتين.

في أي طابور من الطوابير التي صارت من مفردات حياتنا، ستجد ذلك العبقري الذي يعرف خطة الكريملين "السرية" للسيطرة على أوكرانيا وبولندا والمجر، كيف عرفها هذا الكائن إن كانت سرية؟ لا يهم! المهم أنه يعرف. سيخبرك أحدهم - وهو ينظف أذنه بمفتاح سيارته - أن أسامة ابن لادن لم يمت، وأنه عميل للسي آي إيه، وأنه يقيم في شقة سرّية في فرجينيا. من الواضح أن معنى (سريّة) تغير في معاجم اللغة.

مؤخرا تحولت قضية مُراسِلَة الجزيرة (شيرين أبو عاقلة) من قصة بطولية، وقضية رأي عام تُجرّم بشكل فاضح العدو الصهيوني، تحولت من هذا المسار الجوهري، إلى قضية فقهية، تتعلق بجواز الترحم على غير المسلمين من عدمه. 

وأنا – طبعا – لن أناقش هذه القضية الشرعية الآن لكيلا أنسف المقال من أساسه، فمعلوماتي الدينية كمعلوماتك أيها القارئ العزيز حول اقتصاد زامبيا في الثلاثينات. لكنني أعرف قطعا أن القضية الجوهرية اليوم ليست تلك التي يجروننا إليها.

وعودٌ على السؤال الذي بدأنا به فيُنسب لابن رشد قوله: "لو سكت من لا يعرف لقل الخلاف" ويُنسب للفيلسوف سقراط كلام قريب من هذا.

وفي الحديث الشهير يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم لسيدنا معاذ بن جبل: "... وهل يكب الناس على وجوههم - أو قال على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم؟"

 

(المقالات المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)