لا يخدعنْكَ حديثُها المعسولُ

لا يخدعنْكَ حديثُها المعسولُ

مايو 24, 2022 - 17:38

بقلم الكاتب| نزار محمد عثمان 

هل سألت نفسك مرة: من هي الجهة التي تحظى بنصيب الأسد من حواراتك؟

في كل مرة لها النصيب الأوفى. وعادة تكون المحادثة معها صريحة للغاية؛ ومفتوحة في كل المواضيع؛ و ليس فيها خطوط حمراء؛ ولا مخاوف سوء الفهم؛ ولا التنمر ولا غيره .. وفي أكثر المرات تثمر هذه المحادثات في إقناعنا بأفعال وممارسات عديدة؛ لها أبلغ الأثر في حياتنا.

إن جهة بهذا الأثر؛ وهذا الكم من الحوارات حري بنا أن نعرفها ونعرف كيف نتعامل معها.

إن لم تكن عرفتها فهاك الجواب: إنها نفسك.

نعم حديث النفس هو الحديث الأكثر والأكبر؛ وهو يفوق مجموع محادثاتك مع الآخرين بأضعاف مضاعفة .. فهل تهتم لما تحادث به نفسك؟ هل تشغلك بسفاسف الأمور أم بمعاليها؟ هل تستطيع أن تعارضها وتخالفها؟ أم أنك تسمع وتطيع في كل حال. اجب واحتفظ بالإجابة لـ "نفسك".

حديثها بين السلب والإيجاب:

قرر كثير من الباحثين أن حديث النفس يكون سلبيا بنسبة تتراوح من 65% إلى 77%؛ كما قرروا أنه يتركز حول إكمال معركة لم تنته؛ أو انتهت بطريقة غير مرضية لك؛ كلمات انطلقت من شخص ما؛ فأثارت نفسك؛ وأزعجتها فهي تفتح ملفها في كل خلوة؛ وتلومك لماذا لم تقل له كذا؟؟ ولماذا لم تفعل كذا.

وقد يكون حديث النفس تبريرا لإخفاق ما؛ حيث تعوض النفس الخسارة بسرد الأسباب التي أدت إلى ذلك وتسوق المبررات.

وقد يكون حديث النفس إزكاءً لقلق ما من مخاوف لن تحدث أبدا؛ وفتح لباب "لو" الذي يفتح باب الشيطان بدوره.

وقد يكون حديثها مقارنة بالآخرين..

وقد يكون حديثها "أزّاً"  للحصول على شهوة ما؛ فلا تتوقف النفس إلا بعد مقارفة الشهوة؛ وبتكرار الأمر لا تقنع بالمعصية المعينة بل تطلب ما هو أفحش منها وتواصل الأز حتى تنال مرادها .. وقد يكون غير ذلك ..المهم أنها لا تتركك؛ وتزين لك كلامها؛ وتتشعب بك في خيالاتها .. وتجمل لك أفكارها .. حتى تصل بك إلى أن تبتعد عن الناس حفاظا على تدفق حديثها معك.

انظر إلى قيس ابن الملوح كيف كان يستلذ حديث نفسه عن ليلى .. ولا يصبر على قطع هذا الحديث أو مزاحمته .. حتى كان يخرج من بين البيوت ويبتعد عن الناس:

أعد الليالي ليلة بعد ليلة ** وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا

وأخرج من بين البيوت لعلني ** أحدث عنك النفس بالسر خاليا

وبالجملة هناك صور عديدة من حديث النفس السلبي؛ بل هو الغالب .. وقديما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها طُلعة وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية)؛ فالنفس متطلعة بطبيعتها ..

أمارة بالسوء تحتاج رياضة كبيرة حتى تنتقل إلى النفس اللوامة؛ ثم إلى النفس المطمئنة التي لا تحدث صاحبها إلا بمعالي الأمور؛ وما فيه خيرها وخير الناس من حولها.

هل يمكن أن أوقف حديث النفس؟

ليس هناك سبيل إلى الفصام مع النفس؛ فحديثها لن يتوقف؛ ستحدثك باستمرار وتستغل كل فرصة لتفتح حوارا معك؛ وتسعى لإقناعك بما تريد. والحل ليس في مقاطعتها بل في توجيهها .. لتنتقل من النفس الأمارة إلى النفس المطمئنة.

النفس المطمئنة لها حديث كثير مع صاحبها كذلك؛ وقد يكون حديثا عميقا يصرف المرء عن الشعور بما حوله أيضا .. انظر إلى ما أورده مسلم في صحيحه عن سؤال أمنا عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

 يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشق عليكم من يوم أحد؛ فقال: لقد لقيت من قومك؛ وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما اردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي؛ فلم استفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك؛ وما ردوا عليك؛ وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال فناداني ملك الجبال  وسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؛ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا.

انظر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فانطلقت وأنا مهموم على وجهي؛ فلم أستفق إلا بقرن الثعالب" ... لقد قدر العارفون بتلك الديار المسافة بين الطائف وقرن الثعالب بنحو ست وأربعين كيلومتر .. إذاً هو حديث عميق مع النفس استمر ساعات.. يناقش معها أمر الدعوة؛ وكيف يفعل بعدما كذبه أهل الطائف وسلطوا عليه سفهاءهم .. حوار طويل في الخير؛ وفي نشر الدعوة .. ومثل هذا الحديث يؤجر صاحبه عليه.

 إذاً حديث النفس لا بد كائن فعلينا أن نسعى إلى جعله عملا نؤجر عليه يحضنا على الخير؛ لا يؤزنا على الشر؛ لكن كيف السبيل إلى ذلك؟

حتى تؤجر من حديثها إليك:

حتى يكون حديث نفسك لك لا عليك؛ يجب مراعاة ما يأتي:

أولاً: راقب حديثها .. يقول الأمام ابن القيم: "وأما الخطرات فشأنها أصعب؛ فإنها مبدأ الخير والشر، ومنها تتولَّد الإرادات والهمم والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه، ومن غلبته خطراته؛ فهواه ونفسه له أغلب، ومن استهان بالخطرات قادته قهرًا للهلكات" ..انتبه لما تحدثك به نفسك .. فهو مبدأ الخير أو الشر؛ إن كان خيرا فأمضه؛ وإن كان شرا فلا ينطلي عليك .. وتخلص منه.

ثانيا: اقطع حديث الشر؛ ولا تسمح لنفسك بإكمال دورة حياة أفكار الشر .. لأن الخاطرة إن لم تقطع تحولت إلى تصور ثم إرادة ثم فعل يتكرر فيصبح عادة ثم توجه عام.. وقطع الخاطرة أيسر من قطع الإرادة؛ وقطع الإرادة أيسر من قطع العادة؛ وهكذا .. لذلك وفر جهدك واقطع حديث نفسك بالشر في مهده ... وانتبه أن النفس ذكية .. تدخل لك من ألف باب؛ وتلبس لك ألف ثوب .. لتصل بك إلى ما تريد؛ والموفق هو من يعرف حيدتها عن الطريق متى حدثت .. ويقدعها ويوقف شرها.. ويمنعها من الاقتراب من الخطوط الحمراء.

وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ** فإن طمعت تاقت وإلا تسلّتِ

ثالثا: جد لها البديل .. اشغلها قبل أن تشغلك ...فهي لابد أن تحادثك .. اشغلها بالحق؛ وكما قال ابن تيمية "نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل" ..  لذلك عليك أن تسيطر على الحديث معها لا أن تسيطر هي عليه .. عندما تنقل لك حديث الشيطان لا تطعها؛ ولا تكتف بقطع الفكرة فقط .. لأنها لن تتوقف وستأتيك من باب آخر؛ لكن انقلها لحديث الرحمن؛ اعطها البديل. قال صلى الله عليه وسلم : " يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول من خلق السماء ؟ من خلق الأرض ؟ فيقول : الله ؛ فيقول فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله ".. فهنا قطع لتسلل حديث الشيطان وإبدال النفس عنه حديث الرحمن ..فتطوف بها في صفات الله الخالق البارئ المصور البديع ذي الجلال والإكرام الواحد الأحد.. فتزداد إيمانا

وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

رابعا: عللها بالمنى؛ وأطمعها فيما هو أكمل وأجمل. قالوا إن طالب علم سأل شيخه: كيف أنتصر على شهوات نفسي؟ فقال له شيخه؛ سأجيبك بعد أن نذهب للقرية الأخرى ونرجع؛ فبدأ الطالب يعد الزاد للرحلة التي تستغرق وجه النهار كله؛ فقال له الشيخ: لا تُعدّ شيئا الطريق فيها الآبار والثمار؛ فخرجا دون زاد؛ وبعد ساعة عطش الطالب؛ فكلم شيخه فكان جواب الشيخ: لا تقلق يوجد نبع عذب حوله ثمار كثيرة .. ونحن في طريقنا إليه فاصبر؛ فصبر الطالب؛ وسارا ساعة أخرى؛ فطلب الطالب الماء؛ وكان جواب الشيخ كالسابق دعوة للصبر حتى يصلا للنبع العذب والثمار الكثيرة .. وهكذا حتى وصلا القرية الأخرى ... وكان بها نبع عذب وأشجار يانعة الثمار؛ وأزهار وأطيار .. عندها نظر الشيخ للحوار وقال له هذا جواب سؤالك ... عندما تدعوك نفسك لشهواتها .. عللها بالمنى .. وقل لها أريد لك الأكمل والأجمل؛ وهو ليس بعيدا .. على بعد خطوات .. فاصبري .. حتى تصل بها إلى الجنة.

وقد ذكر ابن القيم طرفا من ذلك في لاميته الرائعة:

فدعها رسوماً دارساتٍ فمــا بها ** مقيلٌ وجاوزها فليـــست منازلا

وقل ساعدي يا نفس بالصـبر ساعةً ** فعند اللقا ذا الكدّ يــصبح زائلا

فما هي إلا ساعةٌ ثم تــــنقضي ** ويصبح ذو الأحزان فـرحان جاذلا 

خامسا: زكها بالطاعات؛ عليك بالإكثار من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ومن الصلاة والصدقة وطاعة الله ورسوله فهذه تجلب رحمة الله: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) .. ومن رحمه الله وقاه شر نفسه الأمارة بالسوء (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي)

 

(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)