اهتماماتنا

اهتماماتنا

مايو 28, 2022 - 23:36

بقلم الكاتب| أسامة الرياني 

ثمة فكرة تسيطر عليّ كلما دخلت تطبيق (كلاب هاوس) الفكرة ببساطة؛ "كم تتباين اهتماماتنا؟!"، فشكل عرض الغرف في التطبيق يجعلها - بالنسبة لي - كمعرض كبير لاهتمامات المجتمع، فتجد غرفة لنقاش الحرب الدائرة في أوكرانيا، وتحتها مباشرة غرفة عن المقارنة بين مهارات طارق التايب وفوزي العيساوي، وفي كليهما يحتدم الصراع وتتوتر الأعصاب، وقد يصل الحد إلى الشتائم بالأم والأب.

تعودتُ على هذا النوع من "عدم تقبل الآخر" وأنك إن كنت مشجعا مدريديا مثلا فكل البرشلونيين – عندك - أوغاد قليلو المروءة، وإن كنت من أنصار الشتاء، فعشاق الصيف مخابيل يحتاجون للعرض على طبيب نفسي.
ملحوظة غير مهمة: "أنصار الصيف مخابيل طبعا، لكن أخلاقنا تمنعنا من قول ذلك علانية"

اعتدنا هذه الصراعات ذات الطابع الحدّي، التي لا مكان فيها للرمادي، وإنما هما معسكران أبيض وأسود، ولا تحتاج إلى كثير ذكاء لتعرف أن المتمترسين في المعسكرين، حمقى، ضيقّو الأفق، محدودو التفكير. وإلا فقبول المخالف، والنظر بتواضع لآرائنا وانحيازاتنا المعرفية، سيجعل الحياة أسعد، والعلاقات أكثر نضجا. 

الجديد هذه المرة في (كلاب هاوس) أن يدخل أحدهم ويطلب الكلمة وينتظر وقتا طويلا ليُسمح له بالصعود للركح والتحدث، فإذ به يلعن الموجودين في الغرفة وتفاهتهم لمناقشتهم هذا الموضوع، ولا بأس بسبة بذيئة أو اثنتين قبل أن يقضي عليه الـ(موديريتر)، كما تسحق أي صرصار بـ(الشبشب).
حقيقة لا أستوعب أن يعترض أحدهم على اهتمامات الآخرين، أثمة من يظن أنه هو المعيار، وأن الناس عليهم أن يحبوا ويكرهوا حسب ذوقه؟

شتمنا أحدهم في غرفة (كلاب هاوس) لأننا نناقش شاعرية المتنبي، قياسا لشاعرية امرئ القيس، وكان النقاش محتدما بين أنصار الشاعرين، فطلب هذا العبقري الكلمة، ليسأل عن الفائدة من نقاش هذا الموضوع؟ ثم ليتهمنا جميعا بالتفاهة والغباء والـ(أشياء لا أستطيع قولها).

من الطريف أن هذا الكائن اللزج المقرف، كان يصرخ غضبا، ويحمر وجهه انفعالا "كان وجهه يحمر على الأرجح، وإلا فأنا لا أراه على (كلاب هاوس)" كان انفعاله جارفا، وكان يقسم بأغلظ الأيمان على صدق كلامه، ويتهم معارضيه بالغباء، والتفاهة والـ(أشياء لا أستطيع قولها)، لا بد أنك تتساءل - عزيزي القارئ - عن الموضوع العظيم، والحدث الجلل الذي جعل هذا العبقري يغضب وينفعل، طبعا إنه حدث جلل، إنها صفقة انتقال (إمبابي) لريال مدريد، وما شابها من لغط. ترون أيها الأحبة أن الرجل مُحق في كوننا تافهين للاهتمام بشاعرية امرئ القيس.

من الغريب أن يصل عمر المرء إلى العقد الرابع أو الخامس، وما زال لم يفهم أن اهتمامات الناس تختلف عن اهتماماته، وأنه ليس معيار الصواب والخطأ، ولا معيار الجيّد والرديء.

قرأتُ منذ سنوات كتابا رائعا للشيخ (سلمان العودة)، عنوانه (أنا وأخواتها) يتحدث فيه عن سُخف تنصيبنا لذواتنا معايير نقيس عليها الآخرين.  

استمعت لزوجتي تناقش شقيقتها بشأن أقوام يضعون الحمص في (العصبان)، كُنَّ يتحدثن بانفعال بدا لي مبالغا فيه، فما المشكلة في أن يضع الناس الحمص في (العصبان) ما داموا يحبون ذلك، لن أهتم لو وضعوا الأناناس في حساء الكنغر، لو كانوا يصنعون من الكنغر حساء طبعا، ولكن الأمر بدا لزوجتي وشقيقتها تطاولا غير مقبول على معالي العصبان. في اليوم ذاته، وبعد ساعات كنت أناقش - باهتمام بالغ - مع ابني، تشكيلة الأهلي، وهل سيلعب (السلتو) أساسيا أم سيدخل بديلا في الشوط الثاني. انتبهت فجأة لنظرات زوجتي الساخرة لنا. هذه بتلك.

أيها القارئ الحبيب .. ستجد في حياتك أصنافا شتى من الناس، واهتمامات تفوق قدرتك على العد، ليس مطلوبا منك إبداء رأيك في كل ذلك، ولا تصنيف هذه الاهتمامات كحسن وقبيح، تجاوز ما لا تحبه، ولا تلتفت إليه أبد. فقط تجاوزه ولا ترهق نفسك بثني الناس عن الاهتمام به لأنه لا يعجبك.

في الحيّ الواحد، بل وفي الشارع الواحد وربما البيت الواحد ستجد من يقضي حياته ليتعلم رقصة الكاسكا، أو عزف العود ليصير نصير شمة، وغيره يذهب يوميا لدورة الخط آملا في أن يصبح ابن مقلة، ومن يقضي ثلاث سنوات من عمره ليتعلم صنع الـ(برينقالي) ورمي (الطّراحة) وتقنيات صيد (الكالامار). فلا يزعجنّك ذلك، ما داموا سعداء بما يفعلون، فذلك شأنهم.

وليس بعيدا مما ذكرت، التدخل في أذواق الناس، اختلفتُ مع مديري في العمل حول (أم كلثوم) المغنية الشهيرة، فأنا لا أحب أغانيها، لا هي ولا عبد الحليم حافظ ولا عبد الوهاب، ولا الغناء الشرقي عموما، وأثار هذا الرأي حفيظة المدير، الذي رأى أن هذا خروج عن المألوف، وأن عليّ أن أرضخ لذائقة المجتمع، وأستمتع - غصبا عني - بأم كلثوم، وأن أتخلص من إعجابي ـ غير اللائق ـ  بـ(حميدة بونقطة وعبد الجليل الهتش وجمال عاشور).

ذكرني مديري العزيز بمذيعة أجرت معي لقاء منذ سنوات، وحين سألتني عن اهتماماتي الموسيقية، فوجئت بقولي: (أحب بوب مارلي والمرسكاوي) بدا عليها الارتباك، وقالت لي - تحت الهواء - لو قلت أحب السيمفونيات والمالوف لكان أَلْيَقَ بك كشاعر ومثقف. لا أعرف كيف يصنفون الفنون باعتبارها راقية وغير راقية؟!

قرأت منذ سنوات مقالة ممتعة للكاتب (عبد الله الهدلق)، أظن عنوانها (الجواد الثقافية) يتحدث فيها عن أهمية أن يصنع الجيل الجديد جادّة ثقافية يسير عليها، متحررا من اتباع جواد ثقافية رسمها سابقوه.

وذلك - طبعا - يحتاج شجاعة وقوة شخصية، فبعضنا - وربما أكثرنا - يُحب (بيكاسو) ليبدو مثقفا يفهم الفن، ولم يسأل نفسه حقيقة هل يعجبه رسم (بيكاسو) هل يعجبني فعلا المتنبي، أم أن معلم المدرسة قال لي إنه أعظم الشعراء فرددتُ ذلك دون وعي.

يقول سيد قطب - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: (إن سعيكم لشتى): "والناس في هذه الأرض تختلف طبائعهم، وتختلف مشاربهم، وتختلف تصوراتهم، وتختلف اهتماماتهم، حتى لكأن كل واحد منهم عالم خاص يعيش في كوكب خاص"

لعل جزءا من مشاكلنا في ليبيا، هو أننا لا نقبل اختلاف التنوع هذا، ما الحل إذاً؟ الحل أن نسـ!! مهلا!! ثرثرت كثيرا اليوم، يكفي هذا.

أعتذر من القارئ الكريم على هذه الإطالة، ولنا لقاء آخر الأسبوع القادم.

 

(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)