الشبر الأول

الشبر الأول

يونيو 07, 2022 - 23:56

بقلم الكاتب| أسامة فتحي سليمان

دعني أبدأ معك مقالي هذا بحقيقة علمية قررتها بنفسي منذ زمن بعيد.. ثَمّة علاقةٌ عكسية بين مستوى المعرفة لدى الإنسان ومقدار الجرأة لديه!

هذه الحقيقة قررتها حين كنت أذهب إلى مسجد الحي، حيث كان الإمام الراتب إذا تغيب، فغالب الذين يتجرؤون على التقدم إلى المحراب ليصلوا بالناس تكون قراءتهم سيئة للغاية.

ربما قلتَ في نفسك إن هذه الملاحظةَ لم تستجمع شرائط البحث العلمي وليست كافية لإثبات حقيقة علمية يمكن أن تَنْضَمَّ لنظريات علم النفس الاجتماعي، هذا صحيح، ولكنك إذا أمعنت النظر وجدت في جرأتي على نشرها بهذه الثقة دليلا على صدقها.. ففيها شاهدٌ منها عليها!

على أني لن أكون هنا الخصمَ والحَكَمَ في آنٍ، ولن يسرّني -بطبيعة الحال- أن أجعل من نفسي نموذجا لقلة المعرفة، ولذلك فقد أتيت بشواهد على كلامي من القديم والحديث..

أما القديم فقد اشتهرت في التراث الإسلامي فكرة تقسيم العلم إلى أشبار ثلاثة، الشبر الأول حيث يشمخ المرء بنفسه على الخلق ويرى أنه قد حاز العلم أجمع، فإذا ما ترقى شيئا وبلغ الشبر الثاني، تواضع وعلم أنه لم ينل كل العلم، حتى إذا بلغ الشبر الثالث صغرت إليه نفسه وأدرك أنه ما أوتي من العلم إلا قليلَه!

وأما الحديث، ففي دراسة أجريت عام 1999 وجد العالِمان (دننج) و(كروجر) أن الإنسان غير المؤهَّل في مجالٍ مّا لا يدرك مدى قصوره في ذلك المجال، ولا يمكنه تقييم المتخصصين فيه بدقة، والمشكلة الأكبر أنه يكون عنده من الثقة بالنفس ما ليس عند غيره ممن هم أكثر منه خبرةً ومعرفة.

وقد رسما خطّاً لمقارنة مستوى المعرفة بمستوى الثقة، فوجدا أن الإنسان في بداية دخوله للمجال ترتفع ثقته بنفسه حتى تبلغ منتهاها، ثم كلما ازدادت معلوماته في مجاله بدأ يدرك أن هناك الكثيرَ من الجوانب التي يجب اعتبارها وتعلّمها؛ فتقلّ ثقته في معلوماته عن هذا الموضوع ويظل ينخفض مع ازدياد معرفته إلى أن يصل أدنى مستويات الثقة، قبل أن يبدأ في الارتفاع من جديد مع وصوله درجةً يصنفه فيها أهل ذلك الفن بالـ “الخبير" ولكنه -مع هذه المرحلة المتقدمة- لا يصل مستوى ثقته إلى ثقةِ الإنسان غير الكفء وغير المؤهّل.

(رسم توضيحي لمنحنى الثقة مقارنةً بالكفاءة)

سميت هذه الظاهرة بتأثير دننج وكروجر (Dunning-Kruger effect) وهي كما ترى تؤكد فكرة الشبر الأول في التراث الإسلامي، وهما معاً يؤكدان الدراسة العلمية التي أجريتُها في مسجد الحي!

إذا كنت تظن أن هذه المعلومات هي من الترف الفكري وليس وراءها أي أثر ملموس، فيؤسفني أن أخبرك أن الأمر ليس كما تظن؛ فأنْ تكون في مجتمع يتقدم فيه الجاهل لفرط ثقته، ويُحجِم فيه العالِم لضعف ثقته، هذا يعني أن المجتمع يتجه نحو كارثة مستقبلية على جميع الأصعدة

فعلى سبيل المثال: المجالس النيابية والبرلمانات والرئاسة وغيرها من المناصب الحساسة التي يُرشّح الناسُ لها أنفسَهم، ستَحصُر خياراتِ الناخبين غالبا في أناس غيرِ أكفاء ولا مؤهلين (أو في الأشخاص الأقل كفاءة وتأهيلا من غيرهم في أحسن الأحوال) وذلك أن ثقتهم الزائفة في معارفهم وخبراتهم ستدفعهم إلى الترشح لهذه المناصب، بينما سيَحول ضعف الثقة لدى المؤهلين والخبراء دون ترشحهم؛ حيث لا يرون أنفسهم أهلا لتقلد هذه المناصب.

هذا الأمر لوحده يؤذن بخطر يهدد المجتمع على المستوى السياسي الذي يؤثر بدوره على سائر المجالات.

 ليس هذا فحسب، بل هناك مشكلة إضافية إلى جانب جراءة هذه الفئة على الظهور والتصدر، وهي أن فرط ثقتهم في أنفسهم يُكسِبهم مكانة في قلوب غير المتخصصين، حيث تجد قليلَ العلم (صاحب الشبر الأول) يتحدث بقطعية شديدة وتكثر في كلامه عبارات الجزم واليقين والقطع فيظهر عند العامة بمظهر الواثق مما يقول، بينما تجد العالمَ الحقَّ يَكثُر في كلامه الاحتراز وتَجَنُّبُ القطع في مواطن الظن، وهذا يُظهره عند العامة بمظهر الشاك فيما يقول، المرتاب في معلوماته.

وهكذا تلاحظ أن نتيجةً لحفاوة الناس بصاحبنا الجاهل المجترئ وتقديمِهم إياه في كل مناسبة، فإنه سيتاح له من الفرص أكثرَ مما تتاح للعالِم. إذْ قد جمع ثقةً في نفسه تدفعه للإقدام، وحفاوةً شعبية تدفع به وترشحه عند كل فرصة.

ولا بد أنك لاحظت أيضا أن هذا الصنف ستزداد فرصه ليكون رئيسا لبلدك أو وزيرا أو مديرك المباشر في الوظيفة... بل ربما ازداد الأمر سوءا وصار على رأس مؤسسة تعليمية مرموقة، وحينها سيتعاقد مع أعضاء هيئة تدريس متواضعين، فهو -كما أسلفنا في الدراسة- لا قدرة له على التقييم الصحيح.

وعلى ذكر المؤسسات التعليمية، أذكر أني درَستُ قديما في مؤسسة تعليميةٍ كان على رأسها أحد هؤلاء الواثقين وتعاقد بالفعل مع أساتذة غير مؤهلين من أصحاب الشبر الأول.. ومما لاحظته أن الأساتذة أصحاب الكفاءة العالية لا يجدون أي غضاضة في أن يصوّب لهم أحد الطلبة معلومة أخطؤوا فيها، بل كانوا يحتفون بالطالب النبيه الذي ينبه الأستاذ ويعلنون تراجعهم دون أن يشعروا بأي نقيصة.

 في حين كان الأساتذة الأقل كفاءة لا يتقبلون من الطالب أي تصحيح ولو قدم بين يَدَيْ ملاحظته كل عبارات التعظيم والتوقير والإجلال.. ولم يكن شيءٌ أثقلَ عليهم من أن يعترفوا بخطأ، بل كانوا يقابلون تنبيهات الطلبة بابتسامة ساخرة، ويفضّلون تخطئة الأولين والآخرين من العلماء والأدباء والفقهاء والنقاد على أن يعترفوا بخطأ صدر عنهم.. فضلا عن التراجع عنه.

أظن أنني بملاحظاتي هذه صرت جديرا بوضع نظرياتي في علم الاجتماع، وأفكر الآن في التعاقد مع مجلة علمية محكّمة لأنشر فيها مقالاتي بدل نشرها في مجلة منوعة، وسأفكر جديا في تأليف كتابي الأول في هذا التخصص الدقيق، وربما تواصلت مع مدير تلك المؤسسة التعليمية لأكون عضو هيئة تدريس فيها وأستلم مادة علم النفس الاجتماعي.

 

  (المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)