العبادة في الهرج كهجرة إليّ

العبادة في الهرج كهجرة إليّ

يونيو 15, 2022 - 11:58

بقلم الكاتب / أسامة المبروك صالح

صورة من الأرشيف

 خلق الله الخلق لعبادته، وحثهم على الاستمرار في الطاعة رغّبهم في ذلك ورهبّهم منه، سيما وقت الفتن والهَرْجِ وأوقات الحروب والصراعات، حينما ينشغل الناس بواقعهم المرير وما يُبثُّ حينها من أراجيف وشائعات، الأمر الذي يُودِّي إلى الابتعاد عن حكم الله تعالى والتمسك بشرعه، الذي فيه -وحده-المخرجُ والنجاةُ في الدنيا من الفتن والفوز في الآخرة.

ولا تزال الأحداث تتسارع في بلادنا ليبيا خاصةً وعالمنا الإسلامي عامةً، والمسلمون مستضعفون تنهال عليهم الفتن والمحن، بين ملوكٍ وحكّامٍ طغاةٍ مُستبدين يذيقونهم سوء العذاب والتضييق عليهم في دينهم ودنياهم، وبين نيران العدو من الخارج وحملات التغريب والتشويه لديننا ونبينا صلوات ربي وسلامه عليه.

وقد اقتضتْ حكمةُ الله تعالى عند وقوع الفتن وجريان المحن أنْ يُمحَّصَ بها المسلمُ ويفتضحَ بها المنافقُ، وهذه سُنَّة الله تعالى في عباده، ليميز الخبيث من الطيب، و(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فالابتلاءُ واقعٌ لا محالة: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) ولقد امتُحِنَ الصحابةُ رضي الله عنهم باتباع النبي ﷺ وهو وحيدٌ طريدٌ يُستهزأُ به في المجالس بأنه ساحرٌ وكاهنٌ، ويَسخرُ منه كفار قريشٍ في المحافل مع ما يَلقى من أذى أقرب الناس إليه، بل وتقاتله العرب ويتجمعون على قتاله، (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) هكذا يصور لنا القرآن ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة الحال وقوة الامتحان.

ولايزال الامتحان قائماً زمن الفتن والمحن والهرج والمرج، فما المخرج من ذلك؟ وأين النجاة؟

في ذلك يقول النبي ﷺ: "العبادة في الهرج كهجرة إليّ" رواه مسلم، والهجرة هي ترك الديار طواعية نصرة لله وإقامةً لدينه، وهذا شيءٌ عظيمٌ لا يستطيعه كلَّ أحدٍ، ومع ذلك فقد ابتلى الله بها الصدر الأول من هذه الأمة، يقول الله سبحانه وتعالى (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا).

والعبادةُ هي اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاهُ من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.

فالمسلمُ إذا أرادَ يلحقَ بالصحابة الكرام وأهل الصلاح فلْيلزم عبادة الله ولا تشغلنَّه الفتنُ، فالعبادةُ وقت مرج الناس وهرجهم أحبُّ إلى الله تعالى من الخوض مع الخائضين، فإنَّ قوماً شغلهم الخوض فيما يخوض فيه الناس عن عبادة الله حتى أدخلهم النار، قال الله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ).

لأنه عند وقوع الفتن والاختلافات واشتباه الأمور يفزعُ بعضُ الناس إلى تلقف الأخبار من كل مَنْ هبَّ ودب!، والإغراق في التحاليل! وتبقى قلوب بعض الناس منشغلة مشوشة! لا تكاد تتفرغ للدعاء والعبادة وطلب التوفيق من الله تعالى، وفي الفتن أيضاً يبحثُ الناسُ عن المخرج باجتهاداتهم الفردية!، ويبتعدون عن المسلك الشرعي السليم في الخروج من الفتن، إذ الواجب في هذه الحالة: البحث عن حكم في النازلة من أهل العلم الموثوق بعلمهم وورعهم ومتابعتهم للأحداث، قال الله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)

فلو امتثل المسلم ما أمر الله به فقد فاز فوزاً عظيماً (ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا).

فعلى المسلم بالصبر والثبات أمام الفتن والمغريات.. فالكثيرُ من النَّاس مَنْ أخذته فتنةُ الدنيا، والمال، والجاه، والسلطان، فطفق يخوض في الحرام ليل نهار، وكلما لاحتْ له فتنةٌ (وهو يُسميها فرصة!) انغمس فيها! يأكلُ المال الحرام؟ ينهبُ الدولة، يضيعُ الحقوق ولا يؤدّي واجباته، يرهنُ بلده للأعداء والمتربصين! مقابل مالٍ في جيبِهِ أو وظيفية في سفارة! ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.

فالعبادةُ في الهرج سببٌ للتمكين وتبديل الخوف إلى الأمن وفي هذا تأملوا قوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

والعبادةُ زمن الفتن والمغريات فيه من الأجر العظيم ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فقد جاء في الطبراني وغيره من حديث أبي ثعلبة الخشني أن النبي ﷺ قال: "فإن من ورائكم أياما، الصبر فيهنَّ مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم قيل يا رسول الله: أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم"

فأجرُ المؤمنِ القابضِ على دينه، المتمسكِ بمبادئه زمن الهرج والفتن أمرٌ عظيمٌ، فلقد رأينا من يبيع دينه بمرتبات! وآخر يتنازل عن مبادئه بمنصب! وثالث: يرهن سيادة بلده بشيك من دولة معادية لليبيا وللأمة الإسلامية جمعاء!

فإذا ما أراد المسلم النجاة في الدنيا والفوز في الآخرة فعليه بالعمل وتحمل العناء والتعب في سبيل مرضات الله، وبذل غاية الجهد كما يتحمل القابض على الجمر، ولا يغترٌّ بسقوط بعض الناس في الطريق، ألا إنَّ سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

والمسلمُ الحريصُ على دينه الساعي لمرضات ربّه يسألُ اللهَ التوفيقَ وهو يعيشُ زمناً "يصبحُ الرجلُ مؤمناً ويمسي كافراً" كما تنبّأ بذلك نبينُا ﷺ واليوم في بلادنا يصبحُ الرجلُ معك يناضلُ الباطلَ وأهلَهُ وما أنْ تلوحُ له دنيا زائلة إلا وينتكس على عقبيه! ويُقدِّمُ التنازلات على حساب دينه ومبادئه، نسأل الله التوفيق والسداد في القول والعمل.

 

(المقالات المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)