اتصالات من ساحة الحرية

اتصالات من ساحة الحرية

يوليو 31, 2022 - 21:49

بقلم الكاتب| محمد أبوغرارة

يوم 21 رمضان 2011 خرجت من سجن أبوسليم .. جاء أبي بسيارته لأخذي من أمام السجن في أجواء مجنونة، كنت قبلها بساعة قد تحصلت على موبايل من أحد السجناء القدماء المسجونين لأسباب عسكرية، فاتصلت بأبي ..

جاء أبي ومعه إخوتي الذي أصرّوا على القدوم: مالك 14 سنة، ونسيبة 9 سنوات .. بعد الأحضان وما يلزم، اكتشف أبي أني لست لوحدي!

اصطحبت معي خمسة زملاء: محمد جمجوم – القلعة، العارف الشاعري – بنغازي، محمد الكوافي – بنغازي، إبراهيم – بنغازي، أسامة التاجوري – مصراتة.

والأسباب كما لاحظتم أنهم من خارج طرابلس ..

آمر السجن في حينها كان متعاوناً جدا، قال: "أي حد عنده وين يمشي يطلع أو يتصل بحد يجي ياخذه" ..

أخذت معي أكبر عدد يمكن أن تحمله السيارة، ومع وجود إخوتي، يمكنك تصور منظرنا في السيارة كيف كان .. لكن صدقاً، كانت من أجمل الانضغاطات اللي مررت بها في حياتي.

طوال الطريق كانت نسيبة التي جلست في حجري تمسك يدي كل فترة وتبكي، هي فقط تريد أن تتأكد أنها لا تحلم وأني بجانبها فعلاً ..

كل هؤلاء الشباب كنت معهم في نفس الغرفة بعضهم لمدة ثلاثة شهور..

محمد جمجوم، الذي اعتقل وهو يحمل لاسلكي وماشي للقلعة .. 

العارف الشاعري، أذكر أول مرة رأيته كنت أظن أن عمره 70 عاماً أو شيئا من هذا القبيل، كان مريضا بإسهال حاد ولا يقوى على الحركة أصلا، ثم اتضح لاحقا أن عمره لم يبلغ الخمسين، وأنه عقيد في الجيش، اعتقل في قمينس في دخلة الرتل يوم 19-3، كان دائم التنظيم، كل أشيائه مصنّفة وموضوعه في شكاير فوق رأسه، و لما خرجنا أخرجها معه! وأنا الذي احتفظت بكندرتي طوال السجن والتي أستخدمها نصف سجناء الغرفة كشبشب حمام و للوضوء، فقط ليسرقها في آخر يوم شخص ما شعر بالحرج لأنه سيعود حافيا لبيته!

محمد الكوافي، البحار في سفينة "مشهودة"  التي تنقل الوقود، اعتقل من السفينة وهي راسية في طرابلس بتهمة أنهم يتراسلون مع الناتو .. محمد ولد البلاد الذي ظل لا يدخن في السجن لشهرين لأنه: "ما يبيش يذل روحه ويطلب العكشة من حد" .. يردد دائما كلمة مع فرج بو زهوة: "شنو ! no news!" ويضحكو .. بو زهوة كان يخرج دائما للعيادة ويأتي لنا ببعض الأخبار، غالبا كاذبة، لكن هذا لم يقلل من مفعولها ..

إبراهيم، الشاب الصغير، كان عمره وقتها 19 سنة، قبض عليه في اجدابيا، قتل أصدقاؤه الذين كانوا معه في السيارة .. الصامت المؤدب، الذي تشاركت معه أول جلسة قرفصاء حزينة -و الوحيدة- التي جلستها في السجن، كانت أول يوم في رمضان بعد المغرب، لأني تخيلت -لا بل رأيت- حال أمي وأبي وأهلي في أول إفطار، لابد أن أمي لم تأكل شيئاً .. لم نتبادل أي كلمات، لكنه كان يفكر فيما أفكر فيه، يجلس هناك وقد غلف رأسه بيديه ..

أسامة، الصايع الطيب، ينام الجميع ولا ينام، يحكي لي عن مغامراته  -كيف يصنع الفقر الإثم!- كان صادقاً بها لأن لا نبرة فخر في حديثه .. يتحدث حتى يذهب ظلام الليل، يسكت فجأة .. يقول لي: "اسمع! تسمع فيه الصوت هذا؟ هذا صوت الطير.. مش عادي في المكرونة" ..

خرجوا معي، بقوا في منزلنا يومين، بقينا جميعا في مربوعتنا الخارجية حول التلفزيون لمتابعة الأخبار أو نخرج لنتمشى في المزرعة .. بعد يومين، رحلوا جميعا، كل لمدينته.

حدثت الاتصالات في أول يوم، الاتصالات الصادرة، تلك المشاهد التي كل ثانية فيها لها ثقلها الخاص ..

يأخذ إبراهيم موبايل أبي ويتصل بأهله في بنغازي، التغطية كانت سيئة كما تذكرون، عشرات المحاولات ..

تعرف من اتساع عينيه أن الخط ينادي في الطرف الآخر: "السلام عليكم أنا إبراهيم.." تسمع الصرخة في الطرف الآخر رغما عنك، صرخة فرح لأخته كما يبدو، لم تفقد الأمل عندما فقده الآخرون ..ثم تعرف أن الهاتف انتقل لأمه، لأنه غطى دموع عينيه بيديه.

يتكرر المشهد بصيغ مختلفة مع الجميع ..

لكن كانت هناك اتصالات أخرى واردة ..

قريب لدينا يعمل في بريد غريان، أخذ رقم أبي وأعطاه لشخص ناشط في ساحة الحرية مع معلومات حرّفت عند النقل من: رقم واحد كان مسجون في بوسليم، إلى: شخص عنده معلومات عن الشباب المسجونين في بوسليم. و قد قيل لي أن الرقم أذيع في ساحة التحرير..

وبدأت الاتصالات تتوالى .. كل اتصال بثقل أم تبحث عن ابنها، بحماس أم تنتظر أن تسمع البشارة ..

إذا فشلنا في التعرف على الاسم ننتقل للوصف، طوله، لونه، ومتى قبض عليه .. التلفون أصبح ملك الجميع، بشكل افتراضي كانت المكالمات تحول للعارف لأنه من بنغازي والأكبر سناً وربما يتعرف على أحد ويطمئن أهله عليه ..

معظم الاتصالات كانت تنتهي بالتطمين الذي هو نوع من الدعاء للمفقود وأهله: ”إن شاء الله تلقوه .. احنا خلينا هلبا شباب وطلعهم الآمر في باصات لمكان آمن .. بإذن الله يتصل بيكم ولدكم"

هذا النوع من التطمين كان يجيده العارف، وهذا كان سببا آخر لتحويل مهمة الاتصالات إليه ..

مع مرور الأيام ظلت الاتصالات مستمرة، لكن في تناقص، ومع كل اتصال كنت أشعر أكثر بالعجز وقلة الحيلة، أنا شخص خرج منذ عشرة أيام من السجن، ليس لدي معلومات إلاّ عمن خرج معي، وقلةٍ أخرى ممن كان معي في الغرفة، وهؤلاء لا أدري أين هم الآن ..

سمعت بعض القصص، أن هناك سجناء خرجوا على أرجلهم، ولأنهم من خارج طرابلس قادهم حظهم السيئ لمناطق قتلوا بها لمجرد أن هيئة ولباس السجن فضحهم ..

الاتصالات تتناقص، الآن آمل أن كل شخص توقف عن الاتصال لأنه وجد من يبحث عنه.

لا يمكنك يا صديقي أن تفهم عزيمة الأمهات، شيء لا يمكنك تخيل كم يبقى قوياً، كم يبقى حتى غير منطقي ..

هناك أم ظلت تتصل لأسابيع، ودائما نفس السؤال: "شنو يا وليدي ما فيش جديد؟" بصوت لولا اندفاع الأم لانعدم من الخجل، بصوت يعتذر عن إزعاج لم يحصل، وبصوت شجاعة المؤمن تسأل ..

كل ما لدي من سبل بسيطة قمت به، ذهبت لمؤسسة تسمي نفسها مؤسسة السجناء، بلغتهم بالاسم وبرقم والدته، لكني الآن أعرف كم كان الوضع مأساويا وفوضويا .. لكنها ظلت تتصل، وأنا استمررت بالرد، بالدعاء والأمل، مثل أخبار السجن الكاذبة.

لا أعرف شيئا الآن عن العارف أو الكوافي أو إبراهيم، مزقتنا عداوات أناس لا نعرفهم، وبيننا أرتال وجراد لا أملكه أنا ولا هم، أزعم أن لدي بيوتا في بنغازي لو ذهبت لهم لعشت فيها كأني ابنهم، لكني أخاف أن أذهب هناك .. ربما خوفي غير صحيح، لكن هذا ما تصنعه الحروب، أنها تخلق الخوف غير المبرر وتجعله أشد تجسدا من الحقيقة. يكفي أن تتخيل نهاية مأساوية ليصيبك منها الرعب فورا .. ولا يمكنك أن تتخيل كم الفظائع التي حدثت بسبب الرعب من شيء لم يحدث ..

هناك العديد من الأشياء الطفولية التي يبدو من السخف قولها مثل:

كيف وصلنا إلى هنا؟!

وأين كان من الممكن تجنب كل هذا؟!

لأنك تعرف أن كل من سيقرأ سيكون له ألف ميل من الحجج، وأن جسده سيكون مغطى بالندب من طعن أخيه في الوطن، وسيرى أنك بأمنياتك الطفولية لو أن كل هذا لم يحدث تجعل كل تضحياته نزوات..و تعرف بأنك لا تعرف حلا لا لما مضى ولا لما هو آت.

لكنني أعلم أن الجميع –من يتنفس قلبه بعد- سيتفق معي أنه سيكون رائعا دائما أن أتصل بأم يحترق قلبها لأخبرها أن ابنها بخير.

 

(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع، بل عن رأي كاتبها)