حول الملتقى التحضيري للمصالحة الوطنية
الكاتب | عبدالله الكبير
استغلال ملف المصالحة الوطنية لأهداف سياسية لن يحقق هذه الأهداف، ولن ينجز أي خطوة على طريق المصالحة، بل ستكون النتائج المباشرة والتداعيات التالية، معاكسة تماما لما تنشده مؤتمرات المصالحة من تقريب لوجهات نظر الفرقاء، ووضع الأسس السليمة لبناء صرح المصالحة، فالحمولة السياسية على ملف ضخم ومتشعب بالفروع على المصالحة الوطنية، ستزيد التوترات محفزة الجميع لاستئناف حالة الصراع، أو على الأقل ابقاؤها قائمة بكل عنفوانها.
العجلة في عقد الملتقى التحضيري للمصالحة الوطنية برعاية المجلس الرئاسي، تسببت في وقوع خلافات كان يمكن تجنبها بالتحضير الجيد، الذي لا يغفل معالجة كل التفاصيل، والنظر في شواغل ومخاوف ومطالب أطراف الملتقي، قبل الشروع في عقد الجلسات، فمن ثغرات هذه العجلة تسللت الأهداف السياسية لبعض التيارات والشخصيات، التي تزعم تمثيلها أنصار النظام السابق، لا بهدف وضع أسس المصالحة، وإنما لإيجاد موقع قدم في السلطة.
لم يسجل التاريخ مصالحة بين ثورة ظافرة مع السلطة التي ثارت عليها وأسقطتها، بينما يمكن للسلطة المنهارة، أن تجمع شتاتها وتوفر أسباب القوة وتعود بثورة مضادة، وقد تنجح في إلحاق الهزيمة بالثورة، إذا تظافرت لها عوامل الانتصار، ولكن لا مجال للمصالحة بين ثورة ونظام أسقطته بعد دفع الثمن المطلوب، بعد أنهار الدماء والدموع التي جرت بينهما.
المصالحة عادة تأتي بعد النزاعات المسلحة التي تخلف الكثير من الضحايا، وتبعث الانتقام من مرقده كل حين لأبسط الأسباب أحيانا، ليستمر النزاع حتى مع تراجع حدته وضعف وتيرته، ولكن تبقى النار تحت الرماد متأهبة لإطلاق لهيبها من جديد، مالم يحسم الصراع بالمصالحة، وبعد قناعة الجميع أن الانتصار متعذر لأي طرف، ولا مندوحة عن المصالحة وجبر الضرر والتعايش.
قبل انطلاق أعمال أي ملتقى مصالحة لابد من تحديد أطراف النزاع، وأن تنتفي أي ريبة أو شكوك في صحة تمثيل المشاركين في الملتقى لأطراف النزاع، وهذه لا يمكن التثبت منها إلا بالانتخاب، فالانتخابات في الأوضاع الحالية ستأتي بشخصيات ممثلة لضحايا الصراع، على اختلاف انتمائتهم، و ستكون مهمتهم الأساسية التي انتخبوا من أجلها هي وضع أسس المصالحة الوطنية، بالطريقة التي يتوافق عليها المنتخبون.
وبما أننا لسنا بدعة في الصراعات والنزاعات التي تعقب التحولات السياسية، فلا ضير من الاستفادة من تجارب الشعوب التي أنجزت مصالحتها، وشقت طريقها إلى البناء والنمو، بعد تضميد الجراح وإعمال العدالة وتعويض الضحايا. تجارب عديدة أنجزت المصالحة فيها عبر المجتمعات المحلية، باللقاءات المباشرة بين طرفي النزاع، وبين الجلاوزة والضحايا، وتم تحقيق مطالب الجميع، وكان دور الحكومات هو تسهيل هذه اللقاءات، وتوفير كافة متطلباتها، من دون التدخل فيها بشكل مباشر، أو فرض توجه محدد لها.
تجربة المصالحة بين مصراتة وتاورغاء تعد نموذجا وطنيا يقتدى به، وقد أكتملت بتسوية نهائية بعد حوارات مباشرة بين ممثلي الجانبين، كان دور الوسطاء فيها محدودا، ولعل من تابعوا التطورات السياسية خلال السنوات الماضية، يتذكرون ماوقع من استغلال سياسي للقضية، من أطراف عديدة محلية وأجنبية، للضغط على مصراتة حتى تتنازل في ملفات سياسية لاشأن للمصالحة بها، ومن ثم كان عنوان المصالحة هو الفشل عدة سنوات، بسبب هذا الاستغلال.
من أبرز ما طرأ في الملتقى التحضيري اعتراض بعض الحاضرين على بعض رموز الدولة، الراية والنشيد، وهو أمر لا يمكن التهاون فيه على الإطلاق، فطرحه يعني أن الهدف ليس المصالحة، وإنما تثبيت موقف سياسي لأطراف موتورة، لم تعترف بعد بالتغيير السياسي الذي وقع في ليبيا بثورة فبراير، وتريد حصة من كعكة السلطة باسم المصالحة.
مسألة الراية والنشيد وكافة شعارات الدولة مجالها لجنة الدستور أو جمعية تأسيسية أو مجلس نواب، وليس مؤتمر مصالحة وطنية يسعى لتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات وتعويض الضحايا.
رغم كل القصور واللغط الذي ظهر في الملتقى، وهو ما يمكن تلافيه في الملتقى الجامع المقبل، مع كل ما أنجزته اللجان الفرعية من حصر للأضرار والمطالب والتوصيات، فانعقاد الملتقى خطوة أولى لا يستهان بها، وإذا كان طريق المصالحة يمتد لألف ميل، فهذه الخطوة الأولى كانت هي الأصعب، وقد فتحت بداية الطريق.
(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)