من تجاربي القديمة.. الرقابة الشرعية على المصارف

من تجاربي القديمة.. الرقابة الشرعية على المصارف

أكتوبر 06, 2023 - 22:19

الشيخ الصادق الغرياني

بسم الله الرحمن الرحيم

من تجاربي القديمة … الرقابة الشرعية على المصارف

جرت عادة المؤسسات ذات التوجه الإسلامي كالبنوك ومؤسسات الصرافة الإسلامية وشركات التأمين التكافلي - أن يوظفوا  لديهم عددا من الشيوخ وأهل العلم الشرعي      بمرتبات مرضية ليتولوا الرقابة على العقود التي تبرمها المؤسسة لتكون موافقة لأحكام الشريعة.

ووجود الرقابة الشرعية على هذه المؤسسات من حسن السياسة، مفيد ومُقَدّر، والتزمت به المؤسسات استجابة لرغبة عملائها المتطلعين إلى تطييب أموالهم، ورجاءً منهم في زيادة  إقبال العملاء على نشاطهم، فإن العملاء إذا علموا أن التعامل في البنوك الإسلامية موثوق بصحته شرعا، لخضوعه لرقابة شرعية من أهل العلم، أقبلوا عليها لشعورهم أنهم يأكلون الحلال، بناء على فتوى العلماء، وأنهم لا يحاربون الله بالربا وأكل فوائد البنوك، ولا يعصونه بعقود الغرر والقمار، أو بعقود بيع الديون، أو ببيع ما ليس في ملك بائعه، مما هو شائع في المؤسسات المالية التقليدية، التي لا تقيم لشرع الله وزنًا.

ومشروع الرقابة الشرعية لأهميته طالبتُ في مقالات سابقة أن يُعمم في كل قطاعات الدولة، فكما أن في كل مؤسسة إدارة قانونية، كذلك يجب أن يكون لكل إدارة مستشار شرعي يبيّن حكم الشرع، بحيث لا يصدر منها ما يخالفه، فإن من المسؤولين من إذا تبين له أمر الشرع وقف عنده ديانةً، فتقل المخالفات، وهذا واجب على الحكومات أن تقوم به،  للإجماع على أنه لا يجوز  - للأفراد أو الإدارات أو غيرها - الإقدام على عمل حتى يُعلم حكم الله فيه.

والرقابات الشرعية اليوم على الصرافة الإسلامية في العالم شرقه وغربه، إلا في حالات  قليلة محدودة، صارت شكلية، قليلة الجدوى، بسبب أنها رقابة مُوَظَّفة لدى المؤسسات  التي تراقِب عليها، تأخذ منها مرتباتها وتتمتع بمزاياها وسفرياتها، والرقيب وظيفته المحاسبة والمنع بإبطال العمل وإلغائه إذا استدعى الأمر!

فهل يمكن للمراقب أن يمنع ويحاسب من يملك توظيفه وعزله ووصله؟!

وهل يمكن للمحاسِب والحالة هذه أن يكون فعالا صارماً، وللمحاسَب أن يكون منتهياً مطيعاً.

أقل ما توصف به هذه العلاقة بين المحاسِب والمحاسَب أنها فتنة، وصاحبها في المحك!

هل يمكن للمراقب الشرعي أن يغضب ويبطل قرارات وضعها مجلس الإدارة الذي وظفه؟

إن فعل ذلك مرة أو مرتين فلا يقدر أن يدوم، لأنه إن دام ممانعا فلا مناص من أحد أمرين؛ إما أن تتوقف الرقابة عن عملها، أو تتوقف المؤسسة!

وكل ذلك لم يكن فيما هو مشاهد على مر السنين من عمر الصرافة الإسلامية، فالمؤسسات منطلقة مزدهرة، تتوسع يوما بعد يوم، ورقاباتها الشرعية كذلك ثابتة، وأمورها  سالكة! والمراقب في المؤسسة الواحدة يود أن لو تُضم إليه ثلاث أو أربع مؤسسات أخرى، ومن لم تتح له فرصة الرقابة من حديثي التخرج يبحث عن الشفاعات والوساطات ليكون عضوا في رقابة، لأنه يعلم أن مسؤولياته خفيفة، ليس فيها مشقة ولا كُلفة، ولا تقيد بدوام ولا انصراف، سوى التوقيع على الأوراق في نهاية الشهر - إن وجد  - أو بحضور اجتماعات دورية روتينية بعيدة المدى!

إذاً لا شيء يُعكِّر العلاقة بين الطرفين، وذلك على الرغم من الشبهات القوية في كثير من التعاقدات!

منها على سبيل المثال، الودائع لدى المصارف الإسلامية التي تخضع للرقابة، يأخذ عليها العملاء أرباحا ثابتة مضمونة (فوائد) في صورة مشاركات، وهي مستمرة ماضية، فلم  تتوقف من أجلها الرقابة عن العمل، ولم يتوقف المصرف عن النشاط، وهذا مجرد مثال  ذكرتُه لأن المخالفة فيه صارخة،  الواجب أن تتوقف، إذ لم تَعُدْ مجرد شبهة!

لكي تضمن الرقابة الشرعية استقلاليتها التي تمكنها من العمل بالصورة المرضية شرعا، ناديتُ كما نادى غيري منذ أزيد من خمسة عشر عاما، عندما كنت  على رقابة الصرافة الإسلامية في مصرف الجمهورية،  أن لا تكون الرقابة الشرعية تابعة في وظائفها     للمصارف التي تراقب عليها، ولا للمصرف المركزي في بلادها، كما طالبتُ حينها بأشياء أخرى إصلاحية تتحقق معها فعالية الرقابة،  ولما لم أجد إلّا الوعود، سَهُل علي الترك فتركتُ، لأني لم أكن رقيباً يتقاضى منهم أجرة، ولأني لم أقبل أن أُحمَّل مسؤولية عمل  منسوب إليّ تَجويزُه شرعا وأنا غير راض عنه!

الذي تنجح معه الرقابة الشرعية أن تُنشأ لها هيئة عامة منفصلة عن المؤسسات التي تشرف عليها، لها ذمة مالية مستقلة وميزانية تخصها من خزينة الدولة، فلا يكون لأحد عليها سلطان،  وتكون مكافآتهم وأجورهم من الخزينة العامة، وذلك كما كانت الأوقاف الأهلية قديماً ترعى العلماء وتقوم بشؤونهم، فتحرر بذلك رزقهم وتحررت إرادتهم وقراراتهم من سطوة الدولة، دون منة لأحد عليهم، فكانوا على مر التاريخ يقولون الحق ولا يخافون فيه لومة لائم!

فمَثل الرقيب الشرعي على عقود المؤسسات الإسلامية كمثل نازلة مهندس يراقب على مُقاوِل يقوم ببناء مدرسة بمواصفات محددة.

فليس لهذا المهندس أن يقبل من المقاول الذي يراقبه على التنفيذ مالا أو سيارة أو نحو ذلك، لأن المهندس المراقب إذا قَبِلَ شيئا فإن المقاول ينتظر منه الإغضاء والسكوت عن الإخلال ببعض المواصفات المتعاقَد عليها عند تسليم المبنى، فتكون في العرف الفقهي (مصانعة).

ولو سُئِلت هيئةُ الرقابة الشرعية عن نازلة المهندس لم تُجب بغير ذلك!

 

(المقالات المنشورة لا تُعبّر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي أصحابها)