ماذا بعد استقالة باتيلي؟
عبدالله الكبير | كاتب صحفي
على غير المألوف في إحاطاته السابقة، تحدث المبعوث الأممي إلى ليبيا في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن، منتصف هذا الشهر بلغة مختلفة وخطاب حاد، انتقد فيه الطبقة السياسية، ونعتها الأنانية على حساب مصلحة البلد، معبرا عن خيبة أمله فيها، ومقاومتها العنيدة لمبادرته، مشيرا إلى تحول البلد إلى ساحة لعب، يحتدم على أرضها التنافس بين الأطراف الإقليمية والدولية، المدفوع بمصالح جيوسياسية وسياسية واقتصادية، داعيا أعضاء مجلس الأمن إلى تحمل مسؤولياتهم، لإلزام كل أصحاب الشأن دعم جهود بعثة الدعم في ليبيا، لإعادة الوحدة والشرعية للمؤسسات الليبية من خلال الحوار السياسي.
هذا الخروج عن اللغة الدبلوماسية السابقة، كان مؤشرا واضحا على نهاية عمل باتيلي كمبعوث أممي عبر الاستقالة، التي أعلنها فيما بعد خلال المؤتمر الصحفي، بعد نحو 18 شهرا من عمله في هذه الوظيفة، لم يحقق خلالها أي إنجاز ينهي أو يقرب من نهاية الأزمة السياسية.
السؤال الأكثر أهمية اليوم هو ماذا بعد شغور المنصب؟ كإجراء إداري روتيني، ستتولي نائبته الدبلوماسية الأمريكية ستيفاني خوري قيادة البعثة عدة أشهر، بتكليف مباشر من الأمين العام للأمم المتحدة، لا يستلزم تصويتا في مجلس الأمن، في مشهد مكرر لاستقالة المبعوث الأسبق غسان سلامة وتولي الدبلوماسية الأمريكية ستيفاني وليامز مهمة قيادة البعثة، والإشراف على تنفيذ ملتقى حوار تونس جنيف، ومع صعوبة توافق الكبرى في مجلس الأمن على شخصية المبعوث التالي، فإن خوري قد تستمر في منصبها زمنا ليس بالقصير.
فشل باتيلي في مهمته لايمكن اعتباره فشلا خاصا به لضعف قدراته أو عدم جديته، فالرجل تولى المهمة بروح متفائلة، وبذل ما بوسعه لجلب الأطراف الرئيسية إلى مائدة التفاوض، بقدر ماهو فشل للمنظومة الدولية، ممثلة في القوى الكبرى التي بيدها القرار في مجلس الأمن، وفي مستوى أقل فشل الأطراف الإقليمية المنخرطة في الصراع، فالمبعوث الأممي هو ممثل لمصالح كل هذه الأطراف، التي لها امتداد داخلي عبر الحلفاء المحليين، كنقطة اتزان بين كل هذه المصالح، المتقاطعة والمتعارضة، في أزمة بلغت مستويات متقدمة من التعقيد.
محاولة استشراف مرحلة مابعد باتيلي، تستلزم العودة المتأنية لإحاطته الأخيرة، فقد وصف فيها المشهد السياسي والاقتصادي الإنساني بدقة وواقعية، من دون مجاملة أو أوهام، وخلاصة حديثه كانت التحذير من خرق اتفاق وقف إطلاق النار، وعودة البلاد إلى الصراع المسلح، مشيرا إلى تحركات مليشيات حفتر إلى سرت في فبراير الماضي، وإلى المواجهات والاشتباكات المتأرجحة، بين الفصائل المسلحة في العاصمة ومحيطها، فانسداد الأفق أمام الحلول السياسية، سيدفع بعض الأطراف المسلحة إلى تفعيل الحلول العسكرية، وتغيير خارطة التحالفات وفقا لمصالح هذه الأطراف.
تراجع الحلول السياسية لا يقتصر على الأطراف المحلية فحسب، فخلال الأسابيع الماضية تدفقت شحنات أسلحة وذخائر شرقا وغربا، من دول كبرى فاعلة في الشأن الليبي، إذ أشارت مندوبة بريطانيا في مجلس الأمن، إلى ارسال روسيا سفن محملة بالسلاح إلى ميناء طبرق، بينما تحدث المندوب الروسي عن تدريبات لفصائل مسلحة ليبية في المنطقة الغربية، تنفذها شركة أمنية مرتبطة بالخارجية الأمريكية، وذكرت عدة صفحات بوسائل التواصل هبوط طائرات عسكرية أمريكية في قاعدة الوطية.
هذا التدافع العسكري من دول كبرى، مؤشر قوي على الاستعداد لمعركة نفوذ تجري على الأراضي الليبية، فالصراع بين أمريكا وحلفائها من جهة، وبين روسيا والصين من جهة أخرى، محتدم في ساحات متعددة أبرزها أوكرانيا، ومن دون حسم هذا الصراع، وهو أمر مستبعد في اللحظة الراهنة، أو التوصل إلى تفاهمات ترسم فيها حدود النفوذ والفعالية للقوى الكبرى، لن يستقر العالم على نظام دولي جديد، ومن ثم فهذا المخاض العنيف والدموي مستمر، وحالة الاضطراب السائدة لا يبدو أن نهايتها قريبة.
إنقاذ البلاد من أتون هذا الصراع، والنأي بها عن احتمال دفع فواتير باهظة من الدماء والمقدرات، في صراع دولي لا مصلحة لنا فيه، لا يمكن أن يقع في وجود الطبقة السياسية الحاكمة، لأنها كما قال باتيلي مستغرقة في أنانيتها، ومغلبة لمصالحها الشخصية الضيقة. ثمة طريق واحد لاستعادة ليبيا وإنهاء التنازع الدولي الإقليمي حولها، وهو سرعة انجاز التغيير عبر الانتخابات، لتشكيل سلطة تمثل الإرادة الوطنية، والاطاحة بكل من هم في مواقع السلطة حاليا، سواء كانت هذه السلطة مستمدة من اتفاق سياسي، أو من القوة والسلاح.
(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)