القوة الناعمة!

القوة الناعمة!

يونيو 05, 2018 - 16:18

 بقلم: محمد بن نصر،

كاتب ومفكر 

لا ادري ما الذي يجول بخاطر القارئ عندما يقرأ عبارة "القوة الناعمة"! أما بالنسبة لي فالقوة الناعمة هي ما يجعل المسلم يشاهد بلاد المسلمين تخرّب واحدة تلو الأخرى فلا يلوم الظالم، ولا ينصر المظلوم، بل يصطف إلى جانب الظالمين! ومن ذلك مثلاً توحد موقف بعض المسلمين مع موقف أشد الناس عداوة للذين آمنوا في لوم حماس كلما دمر اليهود بيوت غزة على رؤوس ساكنيها! 

من جهة أخرى؛ تجعل القوة الناعمة نياط قلب المسلم تتقطع اشفاقاً على ابناء ونساء المعتدين عندما يدعو أحد خطباء الإسلام الميت (من على المنبر يوم الجمعة) "اللهم دمر اعداءك أعداء الدين.. اللهم يتم أطفالهم ورمل نسائهم"! ذات المسلم ( الذي تتقطع نياط قلبه اشفاقاً على الكافرين) يتحول إلى كائن أبلد من خرتيت عندما تسفك دماء المسلمين (في غزة أو في درنة) وعندما تترمل نسائهم ويشرد أطفالهم، بالفعل وليس بالدعاء! 
للقوة الناعمة إذن تأثير مزدوج ومتناقض: انفعال شديد من جانب وبلادة من الجانب الأخر! انفعال شديد لمجرد سماع دعاء لا يحضى بأية استجابة، وبلادة منقطعة النظير أزاء واقع مؤلم: دماء المسلمين تسفك على مدار الساعة، وأعراضهم تنتهك يومياً، ومقدراتهم تنهب منذ قرون، ومع ذلك يصطف البليد مع المعتدين، ولا يلوم إلا المعتدى عليهم! 

القوة الناعمة التي اصفها إذن؛ هي القوة التي لا تقف عند تحويل "الاسلام" إلى كلمة فارغة، بل تملأ فضاءه الثقافي بقيم نقيضة (العداوة بدل الأخوة، والخذلان بدل النصر) دون أن يشعر مدعي الإسلام بشيء من ذلك! هذا هو وجه النعومة في القوة اليهودية-المسيحية المهيمنة على الحضارة الغربية. هذه القوة جندت الكثير من ابناء المسلمين في حربها على الإسلام، وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعاً! 
مما تتكون القوة الناعمة؟ 

القوة الناعمة هي قوة التأثير التي تملكها مؤسسات التعليم ووسائل الإعلام التي تشكل تصورنا للعالم وتمنحنا قيماً للحكم على العلاقات السائدة فيه. لن اتحدث هنا سوى عن مؤسسات التعليم الغربية، ومن خلال تجربتي الشخصية مع ثلاثة من الطلبة العرب (ليبي ومصري وجزائري) كانوا يحضِّرون درجة الدكتوراه في جامعة فرنسية في ثمانينات القرن الماضي. التجربة حدثت قدراً، وكان بالإمكان أن تمر مرور الكرام، لو أنها لم تحدث أمام إنسان يقسم العالم إلى مسلمين وغير مسلمين، في زمن انتشر فيه وباء المساواة بين الكفر والإيمان.


أولاً. الطالب الليبي.

لا أدري ماذا كانت المناسبة لكنه أخبرني أن استاذه المشرف على رسالة الدكتوراه قال له "أنتم تعانون من العقلية القرآنية، الصح صح.. والخطأ خطأ.. دون نقاش"! لا أذكر كيف ناقشته، أو إن كنت ناقشته أصلاً، على اعتبار أن هذا النوع من الشذوذ معدود في فرنسا من الحريات، لكن خطل عبارة "أنتم تعانون من عقليه قرآنية" علق بذهني لما لحق هذا الموقف من مواقف متفرقة كونت لدي قناعة بأني أمام ظاهرة أيديولوجية تستهدف المسلمين في مصدر قوتهم (القرآن).
بعدها (بأيام/أسابيع.. لا أدري) التقيت صديقي هذا في مقهى الكلية فدعاني لسماع ما أعدّه كتقديم لمناقشة رسالة الدكتوراه. هالني أن تكون العبارة الأفتتاحية في التقديم هي "نحن نعاني من عقلية قرآنية.."، فلم أدعه يكمل.. وشرحت له جملة من الأمور المتعلقة بالقصور على مستوى مناهج البحث العلمي في الكلية التي تخرجنا فيها (أنا وهو)، وأن ذلك يمكن أن يُصلح بقرار اداري دون التعرض للقرآن.. وانتهيت أمام إصراره على صدق العبارة إلى الاعتذار له عن عدم قدرتي حضور مناقشة رسالته إذا كان التقديم للمناقشة سيكون بذاك الشكل.. وافترقنا! كان إنساناً كريما وبالغ الرقة ولذا، عندما التقينا بعدها بأيام قال لي: "تعال احضر المناقشة.. لقد حذفت العبارة التي ازعجتك.."! وبالفعل حضرت المناقشة وبعدها احتفلنا بنيله درجة الدكتوراه.. تغمده الله بواسع رحمته.


ثانياً. الطالب المصري.

كان هذا الطالب يعد رسالة دكتوراه بإشراف ذات الأستاذ المشرف على رسالة زميله الليبي. وفي أحدى المرات التي التقيته فيها فاجئني بلهجة مصرية: "شايف ابن الكلب ده.." يقصد الأستاذ المشرف! فسألته عن جريرة ابن الكلب فإذا به يقول: "قال لي أنتم لا تنتقدون القرآن.. القرآن قابل للنقد.. أي نص قابل للنقد"! عندها ادركت أن ما قيل لزميله الليبي لم يكن صدفة ولا حدثاً عابراً، وأن استاذهم الذي يؤكد لهم أنه ليس صهيونيا، وإن كان يهوديا، كان فاعلاً نشطاً في الصراع الأيديولوجي الذي لا يعي أبناء المسلمين من مفرداته شيئاً -لأنهم عقلياً ليسوا في مستواه، أو لأنهم لم يُعَدوا له بكلمات أكثر دقة - بالرغم من أن مالك بن نبي قد اهتم به وحدّث عنه الجيل الذي سبقنا (راجع كتابه "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة")! 

الأستاذ اليهودي الذي قدم لطلبته المسلمين فكرة "نقد النص"، ونصحهم بممارسته على القرآن، يتم استقباله من قبل الأوساط العلمية في مصر كـ"نصف إله"ـــ كيف لا وهو القادم من فرنسا؟! وهنا لابد من تقرير أن الذي ليس له قدرة على تصور القوة الناعمة لفرنسا لن يدرك النفوذ الذي تملكه فرنسا في مصر، و لن يدرك أن إبادة الإخوان المسلمين في مصر توجهها الروح الصليبية التي سكنت قلوباً مصرية بفعل التعليم الغربي (والفرنسي منه على وجه الخصوص). ونظراً لأن فرنسا حاضرة في مصر كقوة ناعمة فقط لن ألوم القاريء إن لم يصدق شيئاً مما يقرأ، فالقوة الناعمة من جنس الشرك: (دبيبها في قلوب المسلمين أخفى من دبيب نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء)! وسأعود لنتاج الظاهرة بعد الفراغ من تجربتي مع الطالب الجزائري.


ثالثاً. الطالب الجزائري.

كان من القلائل بين أبناء العمال (المهاجرين) الذين أكملوا تعليمهم الجامعي، دع عنك وصوله إلى تحضير درجة الدكتوراه، لأن أغلب أبناء المهاجرين وإن كانوا في غاية الذكاء إلا أنهم يتحطمون في مرحلة المراهقة لهشاشة محيطهم الأسري في بيئة يعتبر فيها الزنا وشرب الخمر من الحريات..!

في أحد اللقاءات العابرة في المقهى قال لي، وأذكر أننا كنا نحتسي القهوة وقوفاً، الأستاذ فلان قال: عندما يقصف الفلسطينيون أو اللبنانيون اليهود يقال "إرهاب"، وعندما يقصف اليهود لبنان يقال "عمل انتقامي" représailles، وأردف متأثرا بالأستاذ ومتبنياً مضمون موقفه بكل صراحة: "هذه هي السياسةـــ نفاق"! ونطق الجملة بالفرنسية C’est ça la politique: c’est l’hypocrisie! ادانة الأستاذ الضمنية للاخفاق الاخلاقي لوسائل الإعلام لكيلها بمكيالين بخصوص ذات الصراع (العربي-الصهيوني) كان مجرد أداة لتمكين فكرة مناقضة للإسلام (النفاق) من عقل من العقول الفارغة! 

الأمثلة السالف بيانها تبين كيف يمكن أن يزيح الأستاذ الفرنسي (بجملة عابرة) تلميذه المسلم من دائرة أبوبكر الصديق، وعلي ابن أبي طالب، وعبد الكريم الخطابي، وعمر المختار، ويضعه على خطى ميكافيللي وتاليران (اللذان لا يقيمان وزناً للأخلاق في السياسة) فيفقد بذلك، وبشكل نهائي، البوصلة التي قد تجعله متميزا (في الفهم والتفكير والتصرف) عن غير المسلمين. النجاح الأيديولوجي للأستاذ الفرنسي لا يمكن أن يكون كاملاً إلا إذا استلم تلميذه العربي وعاءً فارغاً، ودون أدنى تحصين ضد الملوثات الثقافية الفرنسيةـــ كانت ردة فعل الطالب المصري أفضل لأنه لم يكن من أسرة مسلمة بالوراثة. وحتى يستلم الاستاذ الفرنسي تلاميذه العرب أوعية فارغة يتم تخريب التربية والتعليم في البلاد العربية أولاً، ثم ينتقل التخريب إلى اجهاض جهود أي جهة أخرى قد تحاول تحصين ناشئة المسلمين ضد الاختراق الأيديولوجي (جمعية العلماء في الجزائر أو جماعة الإخوان المسلمين في مصر). 

ومهما كانت قدرة القارئ على رفض الحق (لاسيما عندما يأتي من إسلامي) فلن يستطيع انكار أن لغتنا العربية كانت قبل مائة سنة أفضل مائة مرة عند الطبقة المتعلمة مما هي عليه الآن! والسر في ذلك أن مؤسساتنا التعليمية التي كانت سليمة قبل مائة سنة قد خربت تماماً بفعل برامج غربية وعقول تمت برمجتها في الغرب! لم تكن مؤسساتنا التعليمية مثالية قبل قرن من الزمان لكن حرصها على اللغة العربية (أداة اتصالنا بالقرآن) لا شك فيه ومحافظتها عليها لا يمكن انكاره. وبالرغم مما سلف لن استغرب إذا اعتقد القارئ أن فساد اللغة العربية قد تم صدفة أو لسوء الطالع، لأن الغالب على أبناء المسلمين النظر للأمور على ذاك النحو. أما التحليل العلمي-الموضوعي المبني على شواهد ودلائل وتجارب تمكن من استقراء الاحداث، على طريقة ابن خلدون مثلاً، فهو بالنسبة لهم عملية تعذيب محظ، أو"أدلجة" يقوم بها الاخوان. وفيما عدا ذلك تكفي فكرة "المؤامرة" لتفسير كل ظاهرة معقدة وضعها القدر أمام عقل فارغ!
فيما تبقى من هذه الورقة سأستشهد بنصوص تبين استجابة ابناء المسلمين للدعوة إلى نقد النص، والمقصود منها، بطبيعة الحال، هو تكذيب القرآن. سأبدا بآخر مظاهر تكذيب اهذا النوع من النقد، ثم أصعد التاريخ حتى نصل إلى لحظة انطلاقه مع عودة طه حسين من فرنسا. آخر النقاد هو د/عبد المجيد الشرفي، الذي قرر أن "المعرفة التاريخية الحديثة تنفي إمكانية اللقاء بين سليمان وملكة سبأ." وهذا معناه (عند هذا الناقد) أن ما ورد بسورة النمل مشكوك فيه، إن لم يكن محض اختلاق! 

الدكتور سيد القمني يتجاوز الشرفي بقوله "أنا لا أؤمن بوجود الجن"، بالرغم من وجود سورة بهذا الأسم في القرآن الكريم! وحتى لا يمنح القمني فرصة تكفيره للغير قال بعظلة لسانه "أنا كافر"! (هذا الجرأة صادفته في بروكسل حيث ألقى محاضرة.. تجدها على اليوتيوب)!

و لا يستغرب من هولاء النقاد شيء من هذا الأفك لأنهم يعتبرون القرآن "أساطير الأولين"، ويتعاملون معه على هذا الأساس. والدليل على ما سلف موقف الناقد الليبي الشهير الصادق النيهوم الذي صاغه على النحو التالي: "لا نزال ننظر إلى كتاب الله بعين أعرابي ميت منذ ألف سنة. ولا نزال نتكلم بلسانه ونردد في كتبنا وإذاعاتنا- ونعلم أطفالنا- كل ما دار في رأس ذلك الإعرابي الجاهل من أساطير، ابتداء من حبس ياجوج وماجوج وراء سور من الحديد، إلى فلق البحر، وحوار الشيطان مع آدم، وخروج يونس من بطن الحوت، وتسخير عفاريت الجن في خدمة سليمان. وهي قصص رواها القرآن عن التوراة وسماها [قصصاً]".

القوة الناعمة برمجت عقول الشرفي والقمني والنيهوم ودربتها على تكذيب القرآن تحت عنوان محايد (نقد النص)! مصطلح "نقد النص" يمكن أن يسمعه الغافل ألف مرة دون أن يهتم لمعناه الحقيقي.
إمام هولاء النقاد اسمه طه حسين، الذي دشن حقل "نقد النص" حال عودته من فرنسا بدرجة دكتوراه. دشن الدكتور طه حسين الحقل الجديد بكتابه "في الشعر الجاهلي" حيث كتب: " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم و إسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما ولكن هذا لا يكفي لصحة وجودهما التاريخي"!

بامكان فرنسا (بقية الروح الصليبية) أن تفخر بقوتها الناعمة، وبإمكانها أن تفخر بجنودها المجهولين (مجهولين بالنسبة لنا فقط أما هي فتعرفهم واحداً واحد) الذين منحتهم أعلى شهائدها حتى يكذبوا القرآن -بدلاً عنها- جهاراً نهاراً في بلاد المسلمين. وعندما يكون هولاء في الحكم تزودهم بما في جعبتها من مكر وسلاح (آخرها طائرات بدون طيار) حتى يبيدوا نيابة عنها الذين لا يمارسون نقد النص، ولا يعطون الدنية في دينهم!

(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كتابها)