أقلام غدرت بهويتنا...

أقلام غدرت بهويتنا...

يونيو 08, 2020 - 23:58

بقلم الكاتب والمحلل السياسي د. فتحي الفاضلي

د. فتحي الفاضلي

 
وطن علمهم كيف يقرأون ويكتبون، فكان الوطن أول ضحاياهم، طعنا وتشكيكا ونقدا، لمعتقداته وتقاليده وعاداته، ورجالاته وتاريخه وأعرافه.
 
غدرت أقلام كثيرة بهويتنا، أو على الأصح غادرتها نهائيا. أقلام كثيرة، كثر الذباب على الفضلات. ومما زاد الطين طينا، أن هذه ‏الاقلام، لا تمس الظلمة والطغاة والجلادون، بنقطة أو همزة أو فاصلة.  بل أستبدلت، ‏تلك الاقلام، الذي هو أدنى بالذي هو خير، واخذت تصطاد بقلوب ميتة، وعقول مسمومة، ونفوس مريضة، حوادث مختارة من ‏تاريخنا، لتصنع منها كتب ومجلدات وجبال، فتحولت تلك الحوادث، وبقدرة قادر، من حوادث متفرقة إلى ‏تاريخ كامل متكامل.
 
وأقول بقلوب ميتة، لأن تلك الأقلام، تصنع ما تصنع، بينما الوطن الذي علمهم كيف ‏يفرقون بين الحرف والحرف، ينزف دماً، ويئن تحت وطأة المآسي والظلم والقهر والإستبداد.
في وقت يحتاج فيه وطننا، إلى كل كلمة وهمسة وهمزة وحرف، تخفف الآم ‏الناس، نرى أصحاب هذه الأقلام يوجهون سهامهم وسيوفهم ورماحهم، إلى عقيدة وتاريخ ‏وتراث هذا الشعب، من أجل أن يصبغوا ‏الإسلام وتاريخ الإسلام إما بالعنف، أو الظلم، أو التخلف، أو الاستبداد، أو الإرهاب.
 
أقلام، تغض الطرف،  وبكرم حاتمي، أو ببلاهة تطوعية، أو بغباء ‏مصطنع، تغض الطرف عن إيجابيات التاريخ الإسلامي من جهة، وعن عنف وإستبداد وظلم الأمم والنحل والدول والأنظمة الأخرى، بمختلف مشاربها وتوجهاتها ومذاهبها، فقط ليرسخوا مبدأ مفاده إن الأنظمة التي تستند أو تعتمد على تعاليم الإسلام، مرتبطة  (هذه الأنظمة)  بالعنف والتنكيل والقتل والدمار والذبح والدماء والإرهاب. وبصيغة أخرى، محاولة ترسيخ مبدأ أن الانظمة العلمانية والليبرالية والفكر والانظمة والتوجهات التي تعتمد على الحداثة، خالية من التنكيل والعنف والإرهاب.   ‏
 
أفلم تكن أمريكا (عن العنف) على سبيل المثال، دولة علمانية عندما قصفت مدن وشواطئ ليبيا، ‏فأرعبت الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى والعجزة والعميان، ألم تكن أمريكا دولة علمانية، ‏ديمقراطية، تتمتع بمجلس للشيوخ وأخر للنواب عندما فعلت ذلك، أم أن عمر بن الخطاب ‏‏(رضي الله عنه) كان يقود اسراب تلك الطائرات التي شنت غاراتها على تلك المدن والقرى ‏والأرياف.
 
وأنظروا، من جهة أخرى، إلى القتل والتشريد والدمار الذي يتعرض ‏له أطفال وشيوخ ونساء فلسطين منذ نصف قرن ويزيد، والعالم العلماني الليبرالي، برمته، ‏يتفرج ويؤيد ويبارك، بل ويدعم. 
 
الم يُرمى علماء ليبيا، في العهد الإيطالي، من الطائرات جواً، إلى أن تتحطم عظامهم، عبرة علمانية لمن يعتبر، أنسيتم معتقلات العقيلة؟ أم ‏أن عثمان ابن عفان (رضي الله عنه) كان يقود الدولة الإيطالية، التي قتلت وشردت وشنقت نصف ‏سكان ليبيا. هل كانت تلك الدولة، دولة إسلامية؟ هل كان أبوبكر الصديق (رضي الله عنه)، ‏خليفة لفرنسا، عندما فعلت، فرنسا الديمقراطية، العلمانية، الليبرالية، الحرة ما فعلته في ابناء ‏ملتنا، أو إن شئتم أبناء عروبتنا، أو ان شئتم جيراننا، من الجزائريين.
 
أيدري اصحاب تلك ‏الأقلام التي تتصيد السقطات في تاريخنا أن القوات المسلحة الفرنسية، في حادثة واحدة فقط، ‏أبادت قبيلة بأسرها، بعد أن هرعت تلك القبيلة هرباُ من القوات الفرنسية الليبرالية العلمانية الحرة، إلى بعض ‏الكهوف في إحدى المناطق، فأوقدت القوات الفرنسية النار على مداخل تلك الكهوف واخذت ‏تصطاد بعلمانية وحداثة وليبرالية منقطعة النظير، كل من يحاول الهرب من الكهوف، بسبب الدخان، ‏اصطادت الأطفال والنساء والرجال والحيوانات، وأبادت القبيلة بأكملها، بينما يتغامز الجنود ويتضاحكون.
 
ولا أظن أننا نسينا، لا سمح الله، فضائع الصرب ضد عشرات ‏الألاف من النساء، اغتصبن والعالم العلماني الليبرالي الحر، يحاصر البوسنية حتى لا تصل ‏طلقة واحدة للمسلمين.  بينما تشحن وعلى مدار الساعة، مئات الأطنان من الأسلحة والقنابل ‏الحارقة والطائرات الماحقة الساحقة لقتل وحرق وسحق أطفال ونساء ورجال العراق ولبنان وفلسطين ‏وأفغانستان.
 
أنسيتم عشرات الملايين، من البشر الذين اخذتهم محرقة الحرب العالمية الأولى ‏والثانية، هل قاد تلك الحروب "أبو هريرة" أم "معاوية" أم "علي بن أبي طالب"، أم قادها أقوام تحت راية الحاكمية لله.
 
ألم تُدمر تلك الحروب الأخضر والأسود والأصفر والأحمر واليابس، ألم ‏تحرق تلك الحروب الحجر والصخر والشجر، ألم تقضي على عشرات الملايين من فصيلة ‏البشر، ألم تدمر قارات كاملة، ودول بأكملها، بما في ذلك ليبيا. روسيا اليابان والصين ودول أخرى لم تقصر في المساهمة في جهود إبادة البشرية. روسيا عل سبيل المثال حاصرت القرم حتى أكل الناس طفالهم. وعلق الروس قائلين، لا بأس، دعوهم يفعلون ذلك.   
 
أكتفي بما أسلفت من نماذج متواضعة جداً جداً جداً، من العنف ‏العلماني، والقتل الليبرالي، والإبادة الاستعمارية، والدمار الشامل الحداثي، والتنكيل بالبشر الذي تمارسه الأنظمة الغربية والعربية والشرقية التي تتبنى مبدأ فصل ‏الدين عن الدولة، أكتفي بذلك، لأن كل ما ذكرته، يندرج تحت باب "ما هو معروف من التاريخ ‏بالضرورة"، وأكتفي، من جهة اخرى، لأنني مهما حاولت في هذه العجالة أن أصور فضائع ‏العلمانية والليبرالية ضد الشعوب عبر التاريخ القديم والمعاصر، بل ضد بعضهم البعض، وفضائع الذين يفصلون الأديان والقيم والمباديء عن السياسة – مهما حاولن - سيصيبني الفشل حتماً.
 
ولا أود في نفس الوقت، أن أنتقص من هول هذه الفظائع ضد البشر، إلا إذا كانت الأقلام التي تتمتع بالطعن في ‏تاريخنا وشخصياتنا وهويتنا وحروبنا، لم يحصل لها الشرف حتى الأن، بالإطلاع على بعض تلك الفظائع لأنهم يعيشون في "زحل"، حيث لا تصل المطبوعات والمسموعات والمرئيات. ‏
 
اما إذا استطاعت بعض الأقلام، صاحبة القلوب الميتة، أن تجد مبررات ما، لـ "جون" ‏و"مايك" و"البرت" و"جورج" وشاخاروف، وماخاروف، والملك سلمان، والرئيس السيسي ومن على شاكلتهم من أهل الجاهلية والتخلف والعنجهية، مبررات – تجدها الأقلام المريضة - لقادة العرب وغير العرب، من ‏الذين لا يطيقون لفظة الدين والإسلام والمسلمين، ومن الذين يتمتعون بفصل الدين عن الدولة...
 
إذا ‏وجدت تلك الأقلام أو غيرها، المبررات والأعذار لما مارسه وما يمارسه أولئك من عنف ضد البشر والبشرية، فهل ‏للمسلمين من نصيب في مثل هذه المبررات، ولو من باب "أولي القربى أولى بالمعروف"– على أقل تقدير- إلا اذا كان "أبوبكر" و"عمر" و"عثمان" و"على" والصحابة الكرام ‏والتابعون وتابعو التابعين وخلفاء وأمراء المسلمين (رضى الله عنهم)، والعلماء والمصلحين وغيرهم، ليسوا من أولي القربى.
أ
مر اخر لا بد أن أنوه إليه...
وهو أن حديثي في هذا المقال ليس هجوما أو دعما لليبرالية أو الديمقراطية أو العلمانية في حد ذاتها، بل اود – عبر هذا المقال – أن أقول أن منظومة ومجموعة المفاهيم التي تشكل العلمانية، والحداثة والليبرالية، والداعية إلى فصل الدين عن الدولة، لا ‏تعني ولا تضمن على الإطلاق، الخلو من العنف، والإرهاب، والظلم، والدمار، والقتل، ‏ والتدمير، والإعتداء على الأمم والحكومات والمدنيين، ظلماً وعدوانا.
 
نقول ذلك ونحن ندرك أن العنف العلماني لا يبرر العنف بإسم الإسلام (والإسلام بريء من العنف)، وإن إصلاح الممارسات ‏بإسم الإسلام، لا تتم بالإنبطاح إلى الدمار العلماني، بل بإصلاح ما يمكن ‏اصلاحه ببدائل ووسائل من داخلنا. بدائل ووسائل تناسب ثقافتنا وهويتنا.
 
ولن تتم اصلاح هذه الممارسات، ‏أيضاً، بترك هويتنا والغدر بها، فمن يغدر بهويته أو ينسلخ عنها أو عن ثقافته، فسينسلخ عن قيمه وتقاليده وأصالته، ويفقد انتماءه لشعبه ومحيطه، ويجد نفسه في دوامة ‏البحث عن هوية أخرى قد تستوعبه دون أن يستوعبها، فيصبح كماً مهملاً، لا إنتماء ولا دور له ‏في هذه الحياة، بل يصبح ضحية من ضحايا التقليد الأعمى الخاوي من الأصالة والتفوق ‏والإبداع، وما خُلقت امتنا الا لتكون مصدراً، للأصالة والتفوق والإبداع، والله ولي التوفيق.
 
ملاحظة: رأي الكاتب لا يعبر بالضرورة على سياسة الصحيفة