(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)

(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)

سبتمبر 16, 2020 - 23:07

الشيخ الصادق عبدالرحمن الغرياني

مفتي الديار الليبية

بسم الله الرحمن الرحيم
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)

هذه الآية سِيقت للاعتبارِ والتحذير، تتضمّنُ تخويفًا للمفسدينَ في الأرضِ، بأنّ ما ظهرَ في البرِّ والبحرِ مِن الفسادِ سببُهُ ما عملوه، وما كسبتهُ أيديهِم، وأنّه مِن العقوبةِ؛ ليذيقَهم بعضَ الذي عمِلُوا.
وسنةُ اللهِ في العقوبة أنّها قد تعمُّ، فتأخذُ المتسببَ في الفسادِ المشارك فيه وغيرَه، وخاصةً إذا كانَ مَن لم يشارك في الفسادِ ترَكَ مقاومتَهُ، وتخلَّى عن فريضةِ الأمرِ بالمعروفِ والنّهي عن المنكرِ، وانضمَّ إلى المتفرّجينَ، وسمَّى السلبيّةَ المضيعَةَ لفريضةٍ مِن فرائضِ الإسلامِ، وَرَعًا وسلامة! كما نراه اليوم من كثير من المعدودين من أهل العلم الشرعي والدعوة، قال تعالَى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الأنفال آية 25، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ النَّاس إِذا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَم يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيه أَوشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ).

وقد ينجي الله الذين ينهون عن السوء دون غيرهم ممن شارك أو طلب السلامة، فلم يكلف نفسه ما أمره الله به من النهي عن السوء، كما قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) الأعراف آية 165.

والفسادُ ضدّ الصلاحِ، فكلّ ما ليسَ صلاحًا فهو فسادٌ، وظهورهُ في الأرضِ وجوههُ كثيرةٌ، تتفاوتُ وتختلفُ باختلافِ الأزمانِ والأعْصار، وذكرت الآية ظهوره في البر والبحر.
ومن مظاهر ظهوره في البَرِّ في أيامِنا تفشِّي وباء (فايروس كورونا)، الذي نراهُ يجتاحُ العالمَ من أقصاه إلى أقصاه، ولا يملكون له حيلة، ومنه أيضا التلوث الضار بصحة الإنسان والحيوان، والآفاتُ التي تصيب الثمار والحبوب، والسّموم، والقحطُ، والجدبُ، والمجاعاتُ، والحرائقُ التي تشتعلُ مِن حينٍ لآخرَ في مناطق شاسعة من العالم، تستمر شهورا، وتأكلُ الأخضرَ واليابسَ، ومنه الأعاصير التي تجتاحُ القارّات، وتقتلعُ الأشجارَ والنباتَ وأسقفَ البيوتِ، والفيضانات التي تغرقُ النّاس والممتلكات بماءِ الأنهار والبحار ب(التسونامي) وشبهه.

ومنه إفناءُ الأممِ بالحروبِ والقتلِ، والخرابِ وتدميرِ المدن، والنزوح والتهجير على نطاق واسع، الذي حل بكثير من بلاد المسلمين.
ومن فسادِ البحرِ؛ التلوثُ البيئي، برمي النفاياتِ والأخباثِ فيهِ، والقضاء على كثيرٍ من ثرواتِهِ الحيوانية وغيرها بسوء الاستعمال البشري، وكثرة المُوتانِ فيه من المغامرين المقامرين بحياتهم فيما يسمى (بالهجرة غير الشرعية) من البلاد الفقيرة إلى أوربا.

ويصحُّ أن يكونَ ذكر البرِّ والبحرِ في الآية لا لاختصاص كل منهما بنوع من الفساد، وإنما كناية عن كثرةِ الفسادِ، الذي أحاطَ بالجهاتِ كلّها، وعمَّ وطمّ.
والآية ذكرتْ أنّ هذا الفسادَ هو بمَا كسبت أيدي الناسِ، أي: أسبابُهُ هي أعمالُهمْ، وهي أيضًا - إذا نظرنا- أسبابٌ كثيرةٌ، على رأسِها دون شك الكفرُ والإلحادُ والمعاصي، وشيوع الفواحشِ، وتسلط الظَّلمةِ من الحكامِ على شعوبِهم، وإذلالُهم وقهرُهم بخنقِ أنفاسِهم، والتخلص مِن كلّ مَن يقفُ في وجهِ ظلمِهم، فلا يبالونَ بسفكِ دماءِ الشعوبِ، مهما كثرتْ أعدادُها؛ بالآلاف أو الملايين.
ومَن نَجَى مِن القتلِ أوْدَعوهُ سجونَ التعذيب، التي هي الأُخرى ضاقتْ بأهلِها على كثرتِها، نكالًا لمَن بقيَ خارجَها حتّى لا يبقَى أحدٌ في الرعيةِ تُسوِّلُ له نفسُهُ ألّا يُسبحَ بحمدِ الحاكمِ.
ومنها عداؤُهم للدينِ، وتفريطُهم في قضايا المسلمينَ؛ خدمة لأعدائِهم، وولاءً للكافرينِ واسترضاءً لهم، بدفعِ الأموالِ الطائلة لهم مِن خزائنِ المسلمينَ، ليحفظوا لهم عُروشَهم، ويحمُوهُم مِن شعوبِهم، ويتستّروا على جرائِمهمْ، فلا تنالُهم العقوباتُ الدوليةُ، التي تنالُ مَن يقفُ في وجه الظلمِ مِن الشعوبِ.

ومِن أسبابهِ فسادُ العلماءِ، وتسارُعهم إلى جعلِ كلّ ما يعملُهُ الحكامُ مِن ظلمٍ بَيّنٍ، وفسادٍ ظاهر، وموالاةٍ للكافرينَ، هو مِن الشرعِ المأمورِ به في الدين، فلمْ يتخلّوا وحسب عن واجبِ البيانِ الذي فرضَه الله عليهم، وحذّرهم مِن كتمانهِ أشد تحذير، ولَعْنِهم إن لم يتوبوا، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) البقرة آية 159، بل جعلُوا ظلمَ الحكامِ للرعية وخيانتَهم لقضايا الأمة - فيما نراهُ اليومَ من إظهار المودةِ للعدوِّ المحتلِّ لبيت المقدسِ وبلاد المسلمينَ، وموالاته والتحالف معه فيما سمّوه التطبيع - جعلوهُ شرعًا مأمورًا بهِ، دلّ عليه الكتابُ والسنةُ، والله تعالى يقولُ محذرا المسلمين: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الممتحنة آية 9، فاشترى من فعل ذلك من أهل العلم بآياتِ الله ثمنًا قليلًا، فبئس ما يشترون!

ومِن أسباب الفسادِ في أيامِنا تسلّطُ الدولِ الكبرَى على العالَم، وتحكّمُها في مصيرِه، مِن خلالِ مجلسَ الأمنِ، الذي هو في حقيقتهِ مجلسُ وصايةٍ على باقي دولِ العالمِ، التي لا تسيرُ في ركابِهم، وهو مجلس يتحكمُ فيه الكبار، في السياسةِ الدوليةِ، وفي المالِ والاقتصادِ، وفرضِ العقوباتِ بما يخدمُ مصالحَهم ، وفرض هيمنتهم على الأممِ، وهم وإن تضاربت مصالحهم بين شرق وغرب، وتخالفوا فيما بينهم حولها ، فإنهم يتفقون في عدائهم للمسلمين، ولهم في ذلك ازدواجية معايير عجيبة، ففي الوقت الذي تغضب بعض البلاد الغربية وتستدعي السفراء وتحس بوخز الضمير الإنساني لاتهام روسيا بأنها حاولت تسميم بعض المعارضين من مواطنيها، لم يتحرك هذا الضمير لما فعلته في سوريا من تشريد وقتل الملايين، ولا لما يفعله الصهاينة بالفلسطينين، ولا لما يفعله حفتر بالليبيين!

ومِن أسباب الفساد الذي ظهر في البر والبحر، تدهورُ الأخلاقِ، البالغ في بعضِ البلادِ حدَّ إلغاءِ الزواجِ وإباحةَ الشذوذِ، وجعله أمرًا قانونيًّا مشروعًا، بل تحاول الأمم المتحدة أن تجعله أمرا دوليا، فهي تتبناه وتدرجه في بعض وثائقها تحت مسمى المساواة أو حقوق المرأة، وشبه ذلك.

ومِن أسبابِ الفسادِ ما يتعلق بالرعيةِ، ويساعدهم عليه بعض المتنفذين من الحكام، كالتملق، والنفاق، والمداهنة بالمدح الكاذب، والتسلط على الأموالِ العامة، بالغلولِ واللصوصيةِ والنهبِ والسلبِ، قال تعالى: (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) آل عمران آية 161، وقد جعل عمر رضي الله عنه المال العام كمال اليتيم، الذي قال الله تعالى فيه: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) النساء آية 10.

هذا بعضُ ما ظهرَ مِن الفسادِ في البرِّ والبحر، وبعض أسبابِهِ، مما يدخل في بعض معاني الآية، فالله يعاقب عن السيئات ويعفوا عن كثير، كما قال تعالى: (لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) الروم آية 41، أي: يصيبهم بعض الذي عملوه وليس كله، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) الشورى آية 30.