مهما بلغت قوة الافتراءات

مهما بلغت قوة الافتراءات

فبراير 02, 2021 - 11:56

عبد الله الكبير.. كاتب صحفي

اتاح التقدم غير المسبوق في وسائل وتقنيات الاتصال، وكذلك الانتشار غير المحدود للكاميرات الرقمية فرصا وافرة في التسجيل والتوثيق والنشر. كل الأحداث والتطورات بات بوسع الجميع متابعتها والمشاركة فيها عبر التصوير والنقل، وأضاف هذا بعدا جديدا للصحافة عرفت في الأدبيات الحديثة بصحافة المواطن. في مرات عديدة كانت صحافة المواطن أسرع في التفاعل مع الحدث من المؤسسات الإعلامية الرسمية رغم فارق الامكانيات، ومع تراكم التجربة أصبح لكل حدث أكثر من سجل متكامل يوثق تطوراته لحظة بلحظة، مايسهل على المؤرخين البحث والتحقيق.

 مع هذا التقدم الذي وفرته التكنولوجيا بات من المتعذر التزوير، إذ كل التفاصيل في أي حدث مهما كبر أو صغر اضحت موثقة من كل الزوايا والاتجاهات. ومع ذلك مايزال بالإمكان ممارسة التمويه والتضليل ببعض الخدع البصرية واللغوية، التي لاتسعى لتغيير الوقائع أو قلب الحقائق وإنما التأثير عليها ببعض التحوير والخداع، كالتركيز على بعض الوقائع وإهمال أخرى أو التقليل منها ومن تأثيرها. غير أن هذا الفعل لن يصمد إذا وضع تحت أدوات التحليل والنقد العلمي. 

 مادفعني للكتابة في هذا الموضوع هو مشاهدتي لفلم وثائقي عن حرب طرابلس. يبدأ الفلم بعرض مشاهد لأرتال عسكرية تتحرك في طرقات صحراوية، مع خطاب قصير لحفتر أطلق خلاله عمليته العسكرية التي سماها الفتح المبين بالركاكة المعهودة لديه لضعف قدراته اللغوية والخطابية. يذكر المعلق في الفلم أن قرار الحسم اتخذ، والمهمة أنجزت في بنغازي ودرنة والجنوب. وهنا لابد من طرح أكثر من سؤال. أي مهمة أنجزت في بنغازي والجنوب إذا كانت أسباب الحرب ماتزال قائمة؟ فبعد كل ماخلفته الحرب من خراب ماتزال الاغتيالات على قدم وساق في بنغازي، ولم تتوقف الصراعات القبلية في الجنوب، ولم يحصل الناس على أقل حقوقهم! 

السؤال الآخر. ألا تختلف الأوضاع العسكرية والاجتماعية في غرب البلاد عامة وطرابلس خاصة عنها في الشرق والجنوب؟ ومن ثم فأي حديث عن الحسم بالقوة هو محض وهم. 

 في غرب البلاد ليس ثمة شيوخ يملكون بعض السلطة المعنوية، ويمكن شراء ولاءهم بالمال والسيارات والمناصب، وفي غرب البلاد قوات عسكرية ضاربة لم تهزم في كل الحروب التي خاضت غمارها على مدى عشر سنوات، وتمكنت من إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش في معركة تحرير سرت، وهذه القوة لم يحسب الغازي حسابها، ولم يعرف أنها كانت ترجح كفة الطرف الذي تنحاز إليه في كل الحروب الداخلية التي وقعت بليبيا خلال القرون الاخيرة، لكن ليس من عادات المغامرين العسكريين قرأة التاريخ. 

 الكثير مما ورد في الفلم يستحق التعليق ولكني سأكتفي بالحديث عن رؤية الفلم لتحرير غريان وطرد القوات الغازية منها، وموضوع مرتزقة فاغنر والتدخل الخارجي المباشر في الحرب. تحرير غريان لم يأخذ حقه في الفلم، وكانت الإشارة له عارضة باعتبار أن تجاهله تماما غير ممكن، بينما الحقيقة التي لن تغيب عن أي مبتدئ في الحرب والسياسة هي أنها كانت حدثا مفصليا في الحرب، فتح الطريق والشهية أمام قوات الوفاق للتقدم واستعادة باقي المواقع التي سبق للغازي أن أخذها في غفلة بالتواطؤ مع مليشيات محلية، كما أنه أحرج الدولة الفرنسية بعد فضيحة اكتشاف صواريخ جافلين ما دفعها إلى تبرير وجودها في غريان بروايتين متناقضتين، وهروب عملائها عبر الصحراء وضبطهم في البوابة التونسية، وإذا كان حفتر قد ارتكز للوثوب على طرابلس على ركيزتين هما غريان وترهونة ثم فقد إحدى هاتين الركيزتين، ألا يعد هذا ضربة قاصمة جعلته أعرجا؟ 

 دعم الروس لحفتر عبر شركة فاغنر تم إثباته بعديد التقارير الدولية والبيانات الرسمية الصادرة عن المؤسسات الأمريكية، كوزارة الخارجية ووزارة الدفاع وقوات أفريكوم، ولم يكن بوسع حفتر بقواته ذات التشكيل المليشاوي الهجين أن تحرز أي تقدم على الأرض من دون الدعم التقني الهائل من مرتزقة الفاغنر، والاسناد الجوي الإماراتي، والدعم الاستخباراتي الفرنسي. 

 تعمد الفلم عدم الإشارة لمرتزقة فاغنر ودورهم الحاسم في التقدم الذي أحرزه حفتر في بداية الحرب إلا عند قرب نهاية الفلم، بعد الحديث عن تدخل تركيا لمصلحة حكومة الوفاق، وهذا التمويه بالتقديم والتأخير يعكس رغبة صناع الفلم بالايحاء أن التدخل التركي سابق للتدخل الروسي وهذا من شأنه أن يحيل إلى رؤية مختلفة تماما عن الحرب ومساراتها ومآلاتها. فالحقيقة التي لن يكون بوسع آلاف الأفلام وأعظم المخرجين محوها أو تغييرها أو تمويهها هو اضطرار حكومة الوفاق إلى البحث عن مساندة دولية ضد عدوان تشنه عليها عدة عواصم، بالتواطئو مع عميل محلي ضليع في العمالة الخيانة مع فئة عفنة من الجيش والمليشيات القبلية، ولم تستجب لها إلا الحكومة التركية لأسباب ومصالح تخصها بالتأكيد. ولم يعلن المعتدي عن هزيمته مموهة في رداء إعادة التموضع والانسحاب التكتيكي إلا بعد الإتفاق الروسي التركي، وتراجع مجموعات فاغنر عن جنوب طرابلس وترهونة والعودة إلى سرت والجفرة، حينها انكشفت حقيقة عصاباته الهشة فولت الأدبار ولاذت بالفرار أمام تقدم قوات الوفاق. انسحاب الفاغنر كان محط اهتمام أهالي المناطق التي لجأوا إليها في طريق عودتهم وقام الكثيرون بتصوير أرتالهم في محيط مطار بن وليد والمناطق المجاورة، لتسقط أسطورة الجيش وتنكشف الخديعة الكبرى التي انطلت على المغفلين والسذج فقط. ونعود هنا للتذكير بصحافة المواطن وما وفرته الكاميرات الرقمية ووسائل التواصل من إمكانية تصوير أرتال مرتزقة فاغنر ومنظومات دفاعهم الصاروخية. 

 كل من طالع تاريخ المغامرات والحماقات العسكرية في العصر الحديث يدرك أنه بوسع أي مغامر إطلاق شرارة الحرب الداخلية أو الأهلية، ولكن إدارتها في النهاية تؤول إلى الخارج لتتحول إلى حرب بالوكالة، تحدد الأطراف الكبرى المنخرطة فيها مساراتها ومآلاتها ونهايتها، وتصبح القوى المتصارعة بما فيها الطرف الذي أشعلها مجرد أدوات في يد القوى الخارجية. 

 وكل من طالع تاريخ المغامرات العسكرية يعرف أن الهزيمة هي خاتمة المغامر المتهور، وأن هذه المغامرات لا نتيجة لها سوى الخراب والدمار، والآف الضحايا والجرحى والمبتورين والمهجرين، ولا يسجل التاريخ أي أمجاد لمشعلها مهما كانت مبراراته ودوافعه، لأنها عادة هي مغناطيس التدخل الخارجي وضياع سيادة الدول، بل تبقى لطخة سوداء ولعنة تلاحق كل من تسبب فيها، أو ساهم بحطبه في تأجيجها. 

 لا مجال للتلاعب بحقائق التاريخ، ولا متسع للتضليل والتمويه والتزوير في أحداث ووقائع سجلتها آلاف الكاميرات ووثقتها التقارير المحايدة لحظة تلو اللحظة، مهما برعت الأفلام الوثائقية في ترويج افتراءات مزينة بغلاف رقيق من بعض الحقائق. 

(المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)