أخطأ وإن أصاب

أخطأ وإن أصاب

مايو 23, 2022 - 22:13

بقلم الكاتب| أسامة فتحي سليمان

ترددت كثيرا قبل أن أقتحم مجال كتابة المقالات؛ إذ ليست لي بصيرة علي طنطاوي فأعالجَ الأزمات التربوية، ولا التقاطات أحمد خالد توفيق فأكشفَ عن مشكلاتنا الاجتماعية، ولا أسلوب الرياني لأجمع بين عمق المعنى وطرافة العرض..

ولكنّ اعتقادي أن المرء واجدٌ في الأنهار ما ليس يجده في البحار، ولا يستغني الرجل عن عينٍ يشرب منها الماء ولو ملك طول البحر وعرضه، فإذا وجدتَ من مقالاتي -وآمل أن تجد- ما وصفتُ، فذاك.. وإلاّ، فاحتسب واسترجع لفساد الزمان!

لا بد أنك -أيها القارئ- درست أو سمعت عن حل المسائل الرياضية وأنه يمر بخطوات محددة، متى سلكها الطالبُ بشكل صحيح نال الدرجة كاملة، بل ربما نالها حتى لو أخطأ في الناتج النهائي لخطأٍ عارض أثناء إجراء "الخطوات السليمة"، في حين أنه إن أخطأ في هذه الخطوات فإنه ينقص من درجته بقدر ما لحق بخطواته من الخلل، حتى لو كان الناتج النهائي صحيحا. 

هذا التعاطي مع الأمر منطقي جدا؛ فمن أصاب النتيجة مرة -مع فساد خطواته- أوشك أن يخطئ مرات، وليس صوابه سوى مصادفة ليس له فيها أي كسب فيستحقَّ المكافأة، وأمّا من أخطأ مرة -مع استقامة الطريقة- فإنه يوشك أن يصيب مرات، وليس خطؤه سوى هفوة لا يسلم منها بشر، فلمْ يَصِحَّ أن يحاسَب عليها محاسبةَ الأول.

مثل هذا التعاطي نجد له شواهد أيضا في الشريعة الإسلامية، فقد نص الفقهاء على أن من تعمد أن يخالف القِبلة عند إرادة الصلاة فإن صلاته باطلة، ولو صادف أن وافقت وِجهتُه القبلةَ في واقع الأمر؛ لأن تَمَرُّدَه -بتعمد مخالفة القبلة- فسادٌ لا يُصلحه واقعُ حالٍ لم يقصده.

إذا نظرت حولك وجدت أمرا قريبا من هذا يستحق أن نتعامل معه بالطريقة ذاتها، فليس يخفى هذه الأيام استعلاءُ الثقافة الغربية الناتجة عن هيمنة الغرب، وظهورُ موجة عالية تهاجم ثوابت الإسلام وأركانَه وتحاول تفريغه من جوهره ليصير طقوسا تؤدى في "المعابد" دون أن تتصل بمفاهيم الإيمان الكبرى لدى المسلم التي تجعل محياه ومماته لله رب العالمين.

في هذا السياق من الصراع الحضاري لا تخطئ عينُ الناظر مشهداً متكررا: يخرج أحد المشاهير، منطلِقا من أصول ليبرالية ومُحمَّلا بمفاهيمَ علمانيةٍ، ليستهجن حكما فقهيا لكونه يخالف مبادئ الحضارة الغربية الطاغية، ويهاجمه بأشد العبارات ويدعو لتغييره، فيتصدى له بعض الدعاة بالرد والنقض وبيان الحقيقة.. وتكثر المقالات والمنشورات والمقاطع.. 

في هذه الأثناء يظهر دائماً ذاك "الشيخ" الذي درس "المقاصد"، وربما تحصل على منصب رئيس رابطة أو هيئة إسلامية أو ترأّس مؤسسة إفتاء رسمية، ليهتم "بالناتج" دون النظر في "الخطوات" فينبري لكتب الفقه ويستخرج منها قولا فقهيا -ربما كان ضعيفا أو شاذا- يوافق دعوى ذلك الليبرالي، ثم يتمحّل التأويلات ويتكلف المعاني، فيخلص إلى نتيجة عبقرية: المسألة خلافية، ولا إنكار في مسائل الخلاف!

هكذا جعل صاحبُنا "المقاصديُ" من هذا الليبراليِّ -الذي يصادم قواعد الإسلام- مجتهدا له أجر إن أخطأ وأجران إن أصاب، فيسلك طريقا هجينا في الترقيع للموقف الليبرالي، غيرَ مستحضِرٍ سياقَ الصراع الثقافي المذكور ولا دوافعَ ذلك الموقف ولا خلفياتِه الفلسفيةَ التي صدر عنها، والتي تعارض في جوهرها جوهرَ الشريعة وروحَها، فجوهر الشريعة التسليم والانقياد للخالق، وجوهر الليبرالية التحرر والتفلت من كل القيود، فأنت ترى أنهما ضدان لا يجتمعان، وأي محاولة للجمع بينهما هي محاولة للجمع بين الإسلام والعلمانية، ولن يُنتِج لصاحبه سوى هجين مشوه.. ليس بإسلام ولا علمانية.

والحق أن الاقتصار على النظر إلى مجرد القول في جزئيةٍ معينة دون الالتفات إلى ما ترتبط به من الدوافع والخلفيات والأصول والمرجعيات ليس كافيا للحكم عليها، بل هي نظرة ساذجة وموقف فاسد لا يحسن بعاقلٍ -فضلا عمّن درس "علم المقاصد"- أن يقع فيه.

من المهم أن يعي كل فقيه وداعية أنه لا معنى للاتفاق على حكم فرعي مع الاختلاف في الأصل الذي انبنى عليه ذلك الحكم، من المهم أن يعي ذلك ليكف عن محاولة تطويع أحكام الشريعة -بوعي أو بغير وعي- لتوافق مفاهيم الحضارة الغربية؛ فإنه إن استطاع تطويع الأحكام لتوافق مفاهيم الحداثة مرة، أوشك أن يخالفها مرات، اللهم إلا أن يسلك سبيل صاحبنا الليبرالي (آسف أعني المقاصدي) فيخرجَ في كل مرة ليلفّق، ويجعل من الإسلام شيئا هلاميا قابلا لكل فكرة.. ليصير في الحقيقة بلا فكرة.

على سبيل المثال: حين تطالب إحدى المنظمات المهتمة "بشؤون المرأة" المدعومة من مؤسسات تمارس التغريب، بمنح "حق" الزواج دون ولي، وتقييد التعدد بموافقة الزوجة الأولى، فلا يحسن بالفقيه أن يقول: لا إشكال في هذه المطالب؛ لأن الأول هو قولٌ للحنفية والثاني محمول على مسألة تقييد المباح التي قررها الفقهاء في السياسة الشرعية! 

هذا ترقيع ساذج وغفلة قبيحة وذل ثقافي؛ لأن المَطالب المذكورة ليست خلافاتٍ في فروع ظهرتْ نتيجةَ اجتهادات شرعية، بل هي أثر من آثار المفاصلة العقدية ومظهرٌ من مظاهر التباين في المرجعية التي تصدر عنها الأحكامُ والقناعاتُ والأفكار والمفاهيم، فهي مطالب تأتي في سياق جهود كبيرة -في شتى المجالات- لهدم ثوابت الشريعة الإسلامية ونقض منظومتها القِيَمية.. 

إن تقييد المباح الذي قرر أحكامَه الفقهاء وأفتى به الأئمة في عصور سابقة هو موقفٌ صادر عن مرجعية شرعيةٍ، والفقيه فيه باحث عن مراد الله تعالى ساعٍ في كل ذلك لتحقيق العبودية لله وحده، وأما ما يفعله العلمانيون فهو جهد حثيث لترسيخ مبدَإِ رفضِ تدخل الشريعة في حياة الفرد، وتحقيق "الحرية" المطلقة التي تناقض مفهوم "العبودية" لله، فما يفعله الأول عبادة وإصلاح، وما يفعله الثاني غزو فكري وإفساد، حتى لو صادف في واقع الأمر أن قال كلٌّ منهما بنفس القول، هذا فرق جوهري أساسي، وحد فاصل بين شريعة الله وشريعة الإنسان، بين عبادة الله وعبادة الهوى، لا يحسن  بالعاقل إغفاله ثم الاكتفاء بالنظر إلى آثاره للحكم عليه بموافقة الشريعة أو مخالفتها. 

إن الإنكار على كثير من مواقف الليبراليين وآراء والعلمانيين لا يكون بالضرورة لأجل النتيجة أو القول الذي توصلوا إليه، بل هو إنكار للبناء الاستدلالي والمنهج المعرفي الذي سلكوه، فهو إنكار على فساد المرجعية، و"من خالفك في المرجعية فقد خالفك في الدين".

 

  (المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كاتبها)